بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المُرسلين، والعاقبة للمتقين.
أما بعد،
فقد تواردتْ الخواطرُ عليَّ بعد أن قضى اللهُ هذا البلاءَ وبعد أن كتبتُ فيه فصلينِ فأحببتُ أن أزيدَهما ثالثاً والله المُستعان:
فقد يَعجبُ المرءُ مِن أنَّ بلاءً أَرْسَلَهُ الله تعالى لتذكيرِ الناسِ بما اقترفَتْهُ أيديهم وأيدي أسلافِهم، ولعلهم يرجِعونَ إليه وإلى صراطِ العزيزِ الحميدِ، ثم يكونُ من هذا الوباءِ أن يمنعَ الناسَ من فعلِ أعمالِ العباداتِ والطاعاتِ التي لا يرتابونَ أنها مِن عَمَلِ البِرِّ وأنها مقصودةٌ في تشريعِ اللهِ كصلاةِ الجماعةِ في المساجدِ والجوامعِ وأخُصُّ الحرمينِ الشريفينِ وصلاةِ الجمعةِ وصلاةِ التراويحِ في رمضانَ، فلِمَ يَحْرِمُهمُ اللهُ من أدائها إذا كانَ مقصودُه رجْعَتُهم إليهِ؟
وفي هذا السؤالِ نقطتانِ:
الأولى: أن الناسَ لا زالوا يخْتَصرونَ أعمالَ الخيرِ والبِرِّ في الشعائرِ والطقوسِ وينسَونَ أو يتناسَونَ ما سواهُ من الطاعاتِ والمعروفِ (وهذه فكرةٌ غربيةٌ حداثيةٌ تهدفُ إلى فصلِ الدينِ عن مناحي الحياةِ العامةِ) مع أنهم يقرؤون -وينبغي لهم أن يقرؤوا-قولَ الله تعالى من سورة البقرة:
﴿ لَّيسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِيِـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّاۤىِٕلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَـٰهَدُواۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُولَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواۖ وَأُولَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ﴾ [البقرة ١٧٧]
فأين ذهبَ كلُّ ذلك عن أذهانِ الناسِ ولازالوا قادرينَ على فِعله مثابينَ عليه، لا يضرُّهم أنَّى ومتَى وأينَ فعلوا ذلك، وهم قادرونَ أيضاً على إقامِ الصلاةِ وإيتاء الزكاة في بيوتهم.
الثانية: وهذا مما يوجِفُ القلب خَشْيةً وفَرَقاً من ذي الجلال سبحانه، أنه قدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ تعالى بأخْذِ عبادِه بحرمانِهم من فعلِ طاعةٍ أو عبادةٍ أمرهم به، إذا هم أساؤوا القيامَ به وأخَلُّوا بمعناه كما جرى مع أصحاب السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شُرَّعاً ويوم لا يُسبتون لا تأتيهم-الأعراف-١٦٣،
وكما شدَّد اللهُ التشريعَ على بني اسرائيل بعامة وجَعَلَهُم في الإصرِ والأغْلالِ لمَّا ظَلموا:
﴿فَبِظُلۡمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمۡنَا عَلَيهِمۡ طَيبَـٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً١٦٠ وَأَخۡذِهِمُ ٱلرِّبَوٰا وَقَدۡ نُهُوا عَنۡهُ وَأَكۡلِهِمۡ أَمۡوَ ٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَـٰطِلِۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِينَ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيماً﴾ [النساء ١٦١]﴾
وانظر قوله:
﴿وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمۡنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍۖ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ وَٱلۡغَنَمِ حَرَّمۡنَا عَلَيهِمۡ شُحُومَهُمَاۤ إِلَّا مَا حَمَلَتۡ ظُهُورُهُمَاۤ أَوِ ٱلۡحَوَاياۤ أَوۡ مَا ٱخۡتَلَطَ بِعَظۡمٍۚ ذَ ٰلِكَ جَزَينَـٰهُم بِبَغۡيهِمۡۖ وَإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ﴾ [الأنعام ١٤٦]
ففيه أنَّ التحريمَ جزاءٌ على بغيهمْ، وهذا التحريمُ (والمقصود به هنا التغليظُ بخلاف التحريمِ في شريعةِ الإسلام إذ هو رحمةٌ وهدىً) لا يكونُ أَبَدِيَّاً إلا ما جعلوهُ هم كذلكَ بكفرانِهم بعيسى ومحمدٍ عليهم صلواتُ الله وسلامُه، إذ جاءهم سيدُنا عيسى ليُحِلَّ لهم بعضَ الذي حُرّم عليهم (وهو هذا التغليظ):
﴿وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَينَ يدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايةٍ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [آل عمران ٥٠]
فأبَوا وكفروا بهِ إلا نفراً قليلاً منهم، فلعنةُ اللهِ على الكافرين كما قال تعالى، وقد كانَ لهم فرصةٌ أن يؤمنوا من بعدِ ذلك بسيدنَا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فمنْ أسْلَمَ منهم فطوبى له ومن كَفَرَ فقدْ بقيَ في الأغلالِ.
وقد أذكرُ يوماً قال لي شيخي: لقد فَقَدَ المسلمونَ في أيامنا هذه سرَّ صلاةِ الجماعة، فأصبحتْ خاليةً من هذه الحكمةِ المقصودة منها إلا قليلاً.
وهذه الحكمةُ هي أنَّ المؤمنينَ ثم المسلمينَ إذا اجتمعوا لصلاةِ الجماعةِ وصلُّوا سويَّةً وسَواسِيةً إلى ربٍّ واحدٍ وقِبْلَةٍ واحدة وخلفَ إمام واحدٍ، يسمعونَ كلامَ اللهِ يُتلى عليهم في آنٍ واحدٍ وعلى صعيدٍ واحد، وَجَبَ أنْ يُورِثَ ذلك كلُّه وَحْدَةً في قلوبهم ورحمةً لبعضهم ، ورِقَّةً و حناناً يجعلهم يشعرونَ بعِظَمِ مقامهم ذلك ما وقفوا فيه، ثمَّ يشعرونَ بتآخيهم وَوَحدةِ حالهم إذا انصرفوا من صلاتِهم ، فيتراءى كلُّ ذلكَ في أفعالهم مع بعضهم وأقوالهم لأنفسهم، ووَجَبَ أنْ يظهرَ بعدَ ذلكَ تراحُمٌ وتعاونٌ لا مَثِيلَ له بينَ أبناءِ المجتمعِ الواحد (بما في ذلك أهِل ذمَّتِهم).
وكلما نسيَ بعضُهم ذلكَ، جاءتْ صلاةُ الجماعةِ التالية (متى كان ذلك وحيثما اتفق) لتُذَكِرَّهم به.
فلما غَفَلَ عن ذلكَ الناسُ ثمَّ نَسُوه ثم نسُوهُ أمَداً بعيداً ثم توافقُوا على الجهلِ به وقصْرِ صلاةِ الجماعةِ على طُقوسٍ يأتونَها بلا فهمٍ ولاسَكينة، لا تنهاهمْ عن فحشاءَ أو منكرٍ أو بَغْيٍ، أنْ يظهرَ فيهم ويَشيعَ، فُقِدَ هذا السرُّ وأصبحتْ جماعتهم لا تُغْني عنهم كثيراً، وأمسى بديلاً عنها صلاةُ الجماعةِ التي يجدُ مقيمُوها كلَّ ما فُقدَ أعلاه، وأولئكم همُ المتحابُّونَ في الله المقيمونَ لشرعه ولو على أهوائِهم الذين يُصَلُّونَ جماعةً إذا حضرتهم الصلاة، إذْ ذلكَ أصلُ تشريعِها وذلكَ سرُّ تفضيلها على صلاةِ الفرد.
فانظرْ هذا القولَ وقد قيلَ لي وأفهمنيه اللهُ تعالى من نحو عشرين عاماً، فما حالُ المسلمين اليومَ مع صلاةِ جماعتهم وما نزدادُ من اللهِ مُذّاكَ إلا بُعداً؟
ولا أحبُّ أن يفهمَ من كلامي رجلٌ كان بريئاً وإخوانَه من هذه العيوب أني عَنَيْتُهُ فيما سبق، بل الكلامُ متوجهٌ إلى ظاهرة معروفة وقد طغَتْ وجاوزَتْ حتى أَذِنَ اللهُ بتعطيلِها زمناً.
فمن تَأَمَّلَ كلاميَ هذا تَأَمُّلَ الخاشعِ المُراقبِ لنفسه ولِمَا يَصْنَعُ اللهُ به، وَجِلَ قلبُه حَتْماً وخرَّ للأذقانِ ساجداً يَسْألُ اللهَ أنْ يعيدَهَا نِعْمَةً على المسلمينَ بأنْ تعودَ صلواتُ مساجدهِم الجامعةُ وأن يعودَ سرُّ الجماعةِ إلى قلوبهمْ
اللهم آمين
وسلام على المرسلينَ
والحمد لله رب العالمين
١ رمضان ١٤٤١