بسم الله الرحمن الرحيم
ورُبَّ سائلٍ عما قد سبقْ لم أُبَلَّغْ سُؤالَهُ وكذا اتَّفَقْ
أجيبُ عنه فيما يأتي جَواباً بما مَضَى قَدِ اتَّسَقْ
(ملحوظة: ليس هذا بشعر بل هو نثر مُقَفّى)
هذه أسئلةٌ لم يسألنيها أحدٌ، فبدا لي أن أسألها عنهم وأجيب عليها.
السؤال الأول:
مَن المقصودُ بخطاب الله تعالى في قوله: لعلهم يرجعون؟ وهل هذا البلاءُ مقصودٌ بكلِّ المعاني لكلِّ البشرِ على اختلافهِم؟
الجواب: المقصودُ بذلك هما صِنفانِ من الناسِ:
المؤمنونَ الذين بَلَغَتْهُمْ رِسالاتُ ربِّهِم، ثُمَّ قَسَتْ قُلوبُهُم وطالَ عليهم الأمَدُ وبَقِيَ عندهُم مِن شُعلةِ الإيمانُ قَبَسٌ لا يَكادُ يُضِيءُ ولو مَسَّتْهُ النارُ!
وهؤلاءُ -أقولهُا بِكُلِّ أَسَفٍ شَديدٍ- هُمْ نحنُ.. المسلمينَ، ويليهِم أصحابُ الدياناتِ “التوحيديةُ” الذينَ ما زالوا على شَيءٍ مِنْ تَقواهُم وتَقْدِيسِهِم لِدينِهِم (أَعْني بذلَكَ الكاثوليكَ في البلادِ التي هُم فيها الأكثرُ كإيطاليا واسبانيا وفرنسا …)، فهؤلاءِ هم الذين يُرجى في العقل رجوعُهُم -وإنْ بَعُدَ في النَظَرِ – لارتباطِهِمُ ارتباطاً ما بِبَقِيَّةٍ من دينِهمُ القديم.
ثم يأتي الصنف الثاني من الناس وهم الذين بَعُدوا عن الدين بمعناه الجَمعي بعداً عظيماً حتى صح أن يسموا ملاحدةً وكفاراً (على تفصيلٍ في معنى الكفر هنا لا يتسع المقام لشرحه، وانما أردت نزع المعنى الحربي المرتبط بهذه الكلمة في أذهان المسلمين) وهم قسمان:
- قسمٌ لازال يجاهِدُ في إلحاده حتى يتم له الأمر وهم البلاد التي فيها المحتجون (البُرُتِسْتَنْتْ) هم الأكثر.
- وقسمٌ قد بَعُدَ عن مَنْبَعِ الدينِ الأولِ مِن زمانٍ طويلٍ فَهُمْ أصحابُ دينٍ خُلُقي روحاني كانوا يَعْتَنُونَ به إلى أَمَدٍ قريبٍ، ثم بدا لهم أن يَتَخَلَّوا عن كلِّ ما يَفْرِضُهُ عليهم من أخلاقٍ وأنْ يَمْزِجوهُ مَزْجَاً قبيحاً بأسْوَأَ ما في المادِيَّةِ العَلمانِيةِ الحديثة، فَيَخْرُجَ لهمْ دينٌ لا أُسَمِّيهِ دِيناً بلْ هُوَ إلى الظُلُماتِ أقربُ، وأولئك هم أهل الصين والهند وما شابههم.
فهل يُرْجى ممن كانت حالته كذلك من أهل الصنف الثاني أن يرجع إلى الله؟
نعم، هذا مما يُرجى من أغلب الناس والعامةِ إنْ صَدَقوا وشاءَ لهمُ اللهُ الهدايةَ، أما رؤوسُ الضلالِ والكفرِ الذين قدْ غضِبَ اللهُ عليهم فَيَئِسوا من الآخرةِ كما يئِسَ الكفَّارُ من أصحابِ القبورِ، فلم يَخْطُرْ لي ببالٍ أن يَرْتَدَّ بَصَرُ أحدهم إلى نفسِه ليراجِعَها، فضلاً عن أن يَسْمَعَ هذا الكلامَ فَيُلْقيَ لهُ بالاً.
بل إني رأيتُ أجنادَهُم في وسائلِ الاعلامِ الغربية لا يألونَ جَهداً أن يُكَذِّبوا ويسخروا من كل قولٍ يُشابه قولي (ولستُ أقول إن كل من تكلم بمثلِ كلامي قد اتفق مع ما أرمي إليه)
وقد أعجبني ذلكَ لأنَّهُ يَدُلُّ على أنَّهم يخافونَ أنْ تَشيعَ هذه المقولةُ في الذينَ اتَّبَعُوهم فَيَتَنَبَّهُوا إلى الضَلالاتِ التي انْحرفوا إليها في العقودِ الماضية.
فلو أننا جمعنا الذين يُرجى رجوعُهُم أو على الأقل ندمُهُم من أهلِ الصنفِ الثاني في صعيدٍ، وتركنا الضالين المتكبرين في صعيدٍ آخر، فما شأن هذا العذاب مع هؤلاء الأُخَر؟
الجواب:
هو عذاب الجزاء العادل بما اقترفت أيديهم، ولما يصلْ بعدُ إلى عذاب الأخذ إذ لا زال الله يملي لهم ويمدهم حتى يأذن بأخذهِم كما مضتْ سُنَّتُه في الأولين.
وأُحِبُّ أن أَلْفِتَ نَظَرَ القارئِ الكريمِ إلى أنَّ الموتَ وحده ليس بجزاءٍ للمؤمِنِ أو للذي خَلَتْ دنياهُ من أعمالٍ يخجلُ منها، وفي هذا ردٌّ على من يَقول: لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواۗ قُلۡ فَٱدۡرَءُوا عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِينَ [آل عمران ١٦٨]
إنما الموتُ مصيرٌ مُرْعِبٌ لمن لم يكن يؤمن بالله واليوم الآخر.
والعذابُ الثاني لهم هو فَشَلُ تجارتِهم وكسادُ أموالهِم وظهورُ ضآلةِ علمهِم وضحالةِ مُلْكِهم وتَهافُتِ حُصونِهمْ لمن كان مغروراً بهم وفي ذلك تَتَجَلَّى عَظَمَةُ اللهِ وأنَّهُ مِن ورائهم محيطٌ.
بَقِيَ أن أقولَ: إنَّ لهذا العذابِ أو البلاءِ وجْهاً آخَرَ يَخُصُّ المسلمينَ والمؤمنينَ، يعرفُهُ مَن جرَّبهُ منهم، وهُمْ بكلامي يشهدون:
وهو أنْ يكونَ صاحبُ هذا الوجهِ قد ارْتَدَّ بِسَبَبٍ من هذا الفَيروس إلى حالٍ بخلافِ حالِه الأولى التي كان يَرجو فيها أن تستقيمَ أمورُهُ على الخيرِ وكانَ يُعَوِّلُ على أنْ يأتيَهُ الفراغُ المناسبُ حتى يبْدَأَ شيئاً مفيداً أو فيه خيرٌ للناس أو لنفسِهِ، وكانَ في هذا الانتظارِ كثيرٌ من التسويفِ وطولِ الأملِ والتواكلِ، فلما دَهَمَهُ هذا البلاءُ ألْجَأَهُ إلى حالٍ مخالِفَةٍ لحاله الأولى بحيثُ لم يَعُدْ بِوُسْعِهِ أن يُفَكِّرَ بذلك الخيرِ.
كَمَنْ جلسَ في بيتِه وحدَهُ وكَسَدَتْ تجارته وانقطعَ عن الناسِ وساءتْ أحوالُهُ كثيراً فما عادَ يطمعُ أصلاً أنْ يفكِّرَ بمشروعٍ من مشاريعه التي ليسَ لها أن تقومَ إلا في وفرةٍ من حاله الأولى.
وأصْلُ هذا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحِ المرويِّ عن عبد الله بن عباس ورواه أيضاً أنس بن مالك: نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ.
البخاري (صحيح البخاري ٦٤١٢).
فإن كنْتَ مِمَّنْ هذهِ حالُه فبادِرْ بالاستغفارِ والتوبَةِ وحينَ يُعيدُكَ اللهُ فيما كُنْتَ فيه، فلا تألُ جَهْداً في فِعْلِ الخيرِ وتعجيلِه، فلا تَدْري متى تحينُ ساعةُ جَمْعِ الأوراقِ ولاتَ ساعةَ مندَمِ.
السؤال الثاني:
أليسَ ثَمَّةَ فَسَادٌ كسَبَتْهُ أيدي الناسِ حتَّى ظهرَ في البرِّ والبحرِ، سوى ظُلمِهِم لبعضِهم ونِسيانِهم حقوقَهم؟
والجوابُ بلى!
فقدْ أَفْسَدَ البشرُ الأرضَ حتى ضَجَّتْ من فَسَادِهم.
(والأرضُ في مصطلحِ العربِ من أسلافِنا يقابلُ ما يُسمُّونَهُ اليومَ بالطبيعةِ حينَ يقصِدونَ مُكَوِّناتِ كوكَبِنا ونظامَها البيئيَّ والحَيَوِيَّ). فلو كانتِ الأرضُ (أو الطبيعةُ في اصطلاح المُحْدَثِينَ) جماداً لا يُحسُّ ولا يَعْقِلُ لاسْتَمَرَّ هذا الافْسَادُ فيها حتى تُصْبِحَ قَفْرَاً غيرَ مَسْكونَةٍ أو لَتَبَدَّلَتْ أحْوالُها واخْتَلَّ نِظَامُها حتى يُصيبَها الخرابُ، ولَكِنَّ الأرضَ حَيَّةٌ وهذا ما لا يُنْكِرُهُ عاقلٌ حتى مِنْ مُلْحِدي عَصْرِنا هذا، إذْ ما الحياةُ إلا أنْ تملِكَ نظاماً بيئياً مُتوازِناً وأنْ تَسْتَجِيبَ للتَغَيُّرَاتِ الجارِيَةِ عليكَ بما يَدْفَعُ عنكَ الأذى أو يُعيدُ نَظْمَكَ؟
وقد كانَ ظهورُ هذا الفيروسِ بَرَماً مِنَ الأرضِ بما حَلَّ بها وبنظامِها مِن كَثْرَةِ ما أَفْسَدَهُ الناسُ عليها، حَتَّى تَنْفُضَ عنها رُكامَ الغازاتِ والضجيجَ الذي أَحْدَثَهُ بنو الانسانِ في العقودِ الماضيةِ. وانظرْ بُرهانَ ذلكَ في كِلِّ التقاريرِ التي وَرَدَتْ مِن أنحاءِ العالَمِ عن صَفَاءٍ في الأجْواءِ غيرِ مسبوقٍ، وشفَّافيةٍ في الماءِ لم يَعْهَدْهَا أصْحابُ البُلْدَانِ.
وليس هذا القولُ الذي أقولُ (عن حَيَوِيَّةِ الأرضِ أو الطبيعةِ وكونِها من الأحياءِ الذينَ يستجيبونَ لما يَحِلُّ بهم) بِمُخالِفٍ لكلامي السابقِ عن اللهِ وإرادتِهِ التي اقْتَضَتْ إرسالَ هذا العذابِ على البشرِ، بل هو مُتَّسِقٌ معه أشدَّ اتِّساقٍ، وما كانَ للأرضِ وغيِرها مِن مخلوقاتِ اللهِ أنْ تَفْعَلَ إلا بإذْنِ رَبِّها وبالكيفيةِ التي جَعَلَها عليها. ﴿فَمَا بَكَتۡ عَلَيهِمُ ٱلسَّمَاءُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ [الدخان ٢٩].
السؤال الثالث:
أيُّ الفسادِ الذي عَمِلته أيدي الناسِ كانَ أولى بتعجيل العذاب وظهور آثاره في الأرض؟
والجواب:
لا أُحْسِنُ أنْ أقولَ برأْيي في مِثْلِ هذا السُؤَالِ، ولكن هاكُم بِضْعَاً من الأحاديثِ الشريفةِ الصحيحةِ في سُنَّةِ اللهِ في الكون:
عن بريدة بن الحصيب الأسلمي: ما نقض قومٌ العهدَ إلّا كان القتلُ بينهم ولا ظهرت الفاحشةُ في قومٍ إلّا سلَّط اللهُ عليهم الموتَ ولا منع قومٌ الزَّكاةَ إلّا حُبِس عنهم القطْرُ
صحيح أخرجه البزار (٤٤٦٣)، وأبو يعلى كما في «إتحاف الخيرة المهرة» للبوصيري (٣/٥)، والحاكم (٢٥٧٧)
عن عبدالله بن عمر:] أقبل علينا رسولُ اللهِ ﷺ فقال يا معشرَ المهاجرين خمسُ خِصالٍ إذا ابْتليتُم بهنَّ وأعوذُ باللهِ أن تدركوهنَّ…: لم تظهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتّى يُعلِنوا بها إلّا فشا فيهم الطّاعون والأوجاعُ الَّتي لم تكُنْ مضت في أسلافِهم الَّذين مضَوْا ولم ينقُصوا المكيالَ والميزانَ إلّا أُخِذوا بالسِّنين وشدَّةِ المؤنةِ وجوْرِ السُّلطانِ عليهم ولم يمنَعوا زكاةَ أموالِهم إلّا مُنِعوا القطْرَ من السَّماءِ ولولا البهائمُ لم يُمطَروا ولم يَنقُضوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلّا سلَّط اللهُ عليهم عدوًّا من غيرِهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم وما لم تحكُمْ أئمَّتُهم بكتابِ اللهِ تعالى ويتخيَّروا فيما أنزل اللهُ إلّا جعل اللهُ بأسَهم بينهم
المنذري (٦٥٦ هـ)، الترغيب والترهيب ٣/٢٩ • [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما] • أخرجه ابن ماجه (٤٠١٩)، وابن أبي الدنيا في «العقوبات» (١١) واللفظ له • شرح رواية أخرى
عن عبد الله بن عمر:] لم تَظهَرِ الفاحشةُ في قَومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فَشا فيهم الطاعونُ والأوْجاعُ التي لم تكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِمْ.
القسطلاني ( هـ)، إرشاد الساري ٨/٣٨٧ • [فيه] خالد بن يزيد بن أبي مالك وثقه أحمد بن صالح وغيره، وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرًا لكن له شاهد
عن عائشة أم المؤمنين: أنَّها سَأَلَتْ رَسولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الطّاعُونِ، فأخْبَرَها نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: أنَّه كانَ عَذابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ على مَن يَشاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فليسَ مِن عَبْدٍ يَقَعُ الطّاعُونُ، فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صابِرًا، يَعْلَمُ أنَّه لَنْ يُصِيبَهُ إلّا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ الشَّهِيدِ
البخاري (٢٥٦ هـ)، صحيح البخاري ٥٧٣٤ • [صحيح]
١٧ شعبان ١٤٤١