الايمان بالمحدودية عند الشعوب المترجّلة و عند الشعوب الراكبة-الجزء الأول-

الايمان بالمحدودية عند الشعوب المترجّلة و عند الشعوب الراكبة-الجزء الأول-

شعُوبُنا المسْلِمَةُ الموحدة المؤمنة بإلهٍ غير محدود هو الله عز وجل لا تتصور اللانهائية واللامحدودية في الأشياء وتُـؤْمِنُ بضد ذلك: المحدودية والإحاطة بالأشياء و الأهداف فكيف؟

لا أدري من أين جاء هذا التصور ولكني أزعُمُ أنه منتشرٌ بكثرة بين ظهرانينا وأنه يُملي أفكارنا ومواقفنا وتوجهاتنا بل، حياتنا.

والمحدودية هي الايمان بحدود لكل المعاني كمحدودية العلم والصنعة والخبرة والجمال والابداع. فترى المرء يضع حدوداً لكل هدف هو مقبل عليه، متخيلاً أنه ما إن يصلْ تلك الحدود حتى يضعَ رحالَه ويجلسَ هانئاً مطمئناً غيرَ ملومٍ ولا مُثَرَّب، ونتيجتها أن يتصور المرء إمكان الإحاطة بهذه الحدود و المعاني.

أما التفكير بأنه لا هدفَ، سامياً في هذه الحياة، يمكن أن يقفَ عند حّدٍ، وأن الحياة الدنيا قد خلقها الله للعمل والكد والعلم المتزايد، ولا تنتهي إلا بالموت، فذلك مُسْتنكرٌ في تفكير هؤلاء حتى الإغراب.

ولكنَّ المُغْرِبُ (أي شديد الغرابة) حقاً ، أن يكون هذا في أمة من يدعون أنفسهم بالمسلمين! ولأضرب بعض الأمثلة لتتضح الصورة:

١-معظم طلابنا -وهُمْ مَنْ هُمْ في نبذِ التعلُّم للعلْمِ والأخذِ بالتَعلُّم لمنافِعَ ومصالحَ ماديةٍ محدودةٍ- ينظرون إلى الشهادة (الإجازة) كأحد الأهداف القصوى، والغاياتِ التي لا يُرجى بعدها غاية. فإذا نالوها، فكأنما يُخَيَّلُ لأحدهم أنه نالَ ما تحتَها (أي ما تحت ذلك الاسم) من علومٍ ومعارفَ وخبراتٍ، وأنه استحقَّ كلَّ تكريمٍ أو تبجيلٍ ناجمٍ عما يحمِلُهُ ذلك الاسمُ، ويوحي به من الحكمةِ والخبرة والحِلم. ولذا تراه يطالبُ الآخرين بدفع تلك الجِزْيَةِ إليه (والجزيةُ في اللغة ما أجزأ عنك دفعُهُ إلى من يستحقِّه)، دونما استحقاقٍ من طرفه. فإذا كان الرجل طبيباً ، بقي يمارس عمله في عيادته طيلة حياته، بلا تطور ولا تطوير لمعرفته و قدرته، و إن أحسَّ يوماً بشيء من الحسرة على غياب التواصل مع المستجد من العلوم فإنما يفعل ذلك وهو ينظر إلى هذا التطور كطفرة يمكن أن ينالها ليجدد “مهنته” ولا ينظر إليه كحال دؤوبة ينبغي أن يكون عليها مادام في هذه المهنة. و قل نفس الشيء عن المهندس و المدير والتاجر. و في هذه الأمثلة يمكن أن يهون الخطْبُ  قليلاً و نغفر للبعض جمودهم إن كانوا قلّة( وليسوا كذلك) بدعوى أنهم يطلبون الصنعة و المال و لا يبالون كثيراً بالاتقان و لكن المصيبة الكبرى التي ابتُلينا بها هي وصول هذه الحال إلى مهنة خطيرة و هي التعليم !

فالمعلم الذي يعلم تلاميذه سنة بعد سنة وهو غارق في معلوماتٍ و معرفةٍ عفّى عليها الزمن يُجْرمُ بحق تلاميذه و مجتمعه ووطنه.
وإذا تسلَّمَ الرجل منصباً في الجامعة أو مثلها ليعلِّمَ الطلاب والتلاميذ، بقي على درجته تلك من المعرفة سنين طوالاً بلا أي إحساسٍ أو تأنيبٍ من ضمير ونحوه، وهو يعلم الطلبة المُسترشدين بعلمه ويبقيهم حيث هو (وحيث هم) ما بقوا يتعلمون منه.

و قد يقول قائلكم إن الأمر كسلٌ وخمول ، قلتُ: بل هو أكبر من ذلك و هذا بيت القصيد لأن الرجل لا يتكاسل عن طلب المزيد من العلم و المزيد من الدرْس مادام حياً لمحض خمول و تثاقل فيه (أعني أنه إن جاز ذلك فإنما يحدث للبعض لا الكُلِّ  و لا يَعُمُّ الكسلُ أعداداً غفيرة من مجتمعٍ ما دونما سببٍ من اعتقادٍ و تنشئةٍ في هذا المجتمع وهذا ما نتحدث عنه هنا) ، بل لأنه يتصور أنه قد بلغ الرتبة المقصودة منذ أن حاز شهادة الدكتوراه  وعُيِّنَ للتدريس و التعليم بجامعة مرموقة في البلاد، بل زد على ذلك أنه لا يتصور أصلاً أن تكون هذه الطريق طبيعيةً و ُسنَّةً من سنن الله في هذه الدنيا و إذا جوبِهَ بذلك أنْكَرَهُ أشَدَّ إنكارٍ و جَعَلَ يُفيض القولَ بأنه لابُدَّ من الراحة بعد التعبِ و القرارِ بعد الحركة و كأنه لا يؤمن بالله و لا باليوم الآخر  ولا بالخلودِ بعد الموت.

٢-في خلق وتقدير المشاريع والعمارات والإنجازات العلمية، يبدو أن الجميع ينطلق من ذات النظرة: فهم يفترضون أن الهدف المطلوب هو تحقيق الصرح أو البناء أو المشروع ويكادون يذهبون إلى تقدير قيمته المادية وحسب كأنهم يشترونه كسلعة ليقيموه في بلادهم أما تطويره والحفاظ عليه متجدداً والسعي الدؤوب لكشف طرق جديدة فيه ولتحسينه وما إلى ذلك كله مما يدخل تحت اسم البحث العلمي، فيكاد لا يخطر لهم على بال ولذلك تجد مشاريعنا وصروحنا كأطلال العرب وآثار الأقدمين. ويعم هذا في المشاريع الحكومية والخاصة. ففي الخاصة ترى الشركاء من الطرفين يهتمون بمبلغ رأس المال و زمن استرداده، أما التطوير و التكبير فيكاد لا يخطر على البال و إن خطر فلأجل زيادة الأرباح.

٣-بعد التقاعد لا تكاد تجد أحداً يحاول الاستمرار في العمل وتقديم المنافع في هذه الحياة للبشر كما علمنا الإسلام ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فالجميع يبحث عن مرحلة الخلود (وهي حالة من السكينة المليئة بالاستكانة الخالية من العمل والجد يطمح إليها كلُّ موظف عربي). وليس العيب في أن يسعى الانسان إلى الانصراف إلى شؤون مختلفة من الحياة فيها المتعة، وفيها الجديد من زيارة البلدان والتعرف على الناس، كما يفعل كثير من المتقاعدين (أو يشتهون أن يفعلوه)، سواء أفعل ذلك في وقت أو كل الأوقات (ما تيسّرَ له ذلك)، إنما العيب أن يتصورَ الانسان أنَّ العملَ (بمعنى العطاء و الجد في الحياة لا بمعنى الوظيفة وشغل  العبودية بالضرورة) محدودٌ ، يمكنُ الإحاطةُ به، وتصورُ حدودٍ زمنيةٍ له، بحيث يصِحُّ في عقلِ هذا الانسان أن يُقال له: اعملْ و اعملْ و اصبرْ على ما لا تحبُّ، ولا تُطِيْقُ، حتى تتقاعدَ ، فإن فعلْتَ، فَكُلْ من الدنيا رَغَدَاً حيثُ شئتَ، واقْربْ كلَّ الأشجار، ما دام توفيرُك المالَ في ما سَلَفَ من الزمان يسمحُ لك بذلك. ولذا ترى مُعظمَ هؤلاء يعيشونَ بلا عملٍ يعملونَهُ، وإذا بحثوا عن شيء يفعلونه بعد التقاعدِ فإنما يبحثونَ عما يسلِّيهم ويملأُ وقْتَ فراغهم لا ما يكون مُنْتِجاً بالضرورة. والخُلاصةُ أنهم لا يَعُونَ مقالةَ: لا راحةَ لمؤمنٍ إلا بلقاءِ ربِّه. (بالحريّ أننا نتحدثُ عن نموذج شائع لدينا وأن كلامَنَا لا ينطَبِقُ على مَنْ هو دائبُ العملِ والجِدِّ فيما يُحِبُّ وفيما يُفيدُ وهؤلاء قليلٌ في مجتمعاتنا واأسفاه، كما أنه بالحريِّ أننا لا نتكلمُ عمّنْ أقْعَدَهُ العجْزُ أو السنُّ أو المرضُ).

٤-عند تناول العلوم الجديدة والتعرُّف عليها وعند تعلُّم صنعة جديدة، لا يُعطى العلمُ ولا الصنعةُ حقَّهما من الإعدادِ لهما والخوضِ في تفصيلهما ولا يُقَدَّرانِ قَدْرَهُما بما يَلْزَمُ لهما من إعداد العُدَّة وقراءة العديدِ من الكتب ومساءلة الجماهيرِ من أصحابِ الشأنِ والصبرِ على مكابدةِ المشاقِّ في التَمَرُّنِ والتمرينِ والتعلُّمِ من الأخطاءِ والتعليمِ، وكدْحِ الفكر لابتداع طرقٍ جديدة لإتقان هذا العلم وتلك الصنعة.

٥-ضمان الجنة: لعل هذه المسألة مرتبطة بمسألة الخلود التي أشرتُ إليها سابقاً. فإيمانُ هؤلاء “المسلمينَ” بحالةِ السكينةِ والجنةِ التي يطلبونها في الدنيا وبعدَ “التقاعد” لا يعادِلُه سوى إيمانُهم بأنهم ملاقو ربِّهم بصحيفةٍ ناصعةٍ بعد الموتِ وأنهم من أهلِ الجنانِ ما أقاموا الصلواتِ الخمسَ وصاموا رمضانَ وحجُّوا البيتَ (وأفضلهم من يضيفُ إلى ذلك إخراجَ الزكاة). ومع تقديرنا لأهمية القيام بهذه الفرائض على وجهها الصحيح مع توفُّرِ النيِّة والايمان إلا أنَّ الظنَّ بأن ذلك مُدْخِلُ صاحبِهِ الجنَّةَ كما يَدْخُلُ أحدُكم كندا أو أستراليا أو بلداً مما يَكْبُرُ في صدوركم بعد إتمام إجراءات الهجرة والسفر والتأشيرة، لَهُوَ لَعَمْري مُصيبةٌ كبرى حلّتْ بالمسلمين وجعلتْهم قليلي الإخلاصِ ومحاسبةِ النفسِ فضلاً عن الالتفات إلى الأخلاقِ وتزكيةِ النفس ومساعدة الآخرين، والله المستعان.

٦-الإسلام السياسي: وهذا شأن خطير ومسألة مُعضلة ابْتُلِيَ بها المسلمون في أيامنا، ألا وهي شُغل كثيرٍ ممن يُسَمّون بالإسلاميين بالسلطة والحكم توصُّلاً إلى فرْض رؤيتهم على المجتمع. وبقطع النظر عن صدق هؤلاء أو كذبهم أو إخلاصهم لفكرتهم أو نفاقهم، فإن ما يعنيني من شأنهم ههنا أنهم يكررون نفس النموذج الذي نتحدث عنه: المحدودية والإحاطة بالأهداف. فما إِنْ يَصِلُوا إلى السلطة في بلد ما حتى تراهم يَصْدُرون في أقوالهم وأفعالهم عمّا يُنْبئ باعتقادهم أنهم قد وصلوا إلى مبتغاهم وانتهتْ الرحلة ونَزَل الرّكْبُ وضُرِبَتْ المضارب لحَلِّ القوم (أي نزولهم وسكناهم). فماذا يعني استخدام مُصطلح: التمكين مثلاً بمجرد أن يفوز حزبٌ ما أو شخصٌ ما بمنصبٍ رئاسي في انتخابات دِمُقْرَطِيِّة في بلد حديث ؟؟ وكيف عَرفوا أن هذا هو التمكينُ؟؟ أأنْبَأَهُمُ اللهُ بذلك؟ أم عندهمْ فيهُ برهانٌ منه مُبينٌ؟ بلْ غَفَلوا عن أن الوصولَ إلى السُلطة ما هو إلا مسؤوليةٌ كبرى وأنهم لو عرفوا قدْرها لاستعاذوا بالله من شرها ومن حِمْلها كما فعلهُ أكابرُ الخُلفاء الراشدين، وأنها ليستْ إلا بدايةً لطريقٍ طويل من المسؤولية لا ينتهي وليستْ بأية حالٍ نهايةً أو مُسْتَقَرّاً.

٧-تصور نهايةِ العلم الحديث: وهذا أيضاً مما يتميز به مُثَقَّفونا وفلاسفتنا في هذا العصر. فلأمر ما وقف العلم الحديث لديهم عند أوائل القرن العشرين (خلا بعض الإنجازات التِقَنية التي يحلو لهم أن ينسبوها إليه). أما صورة العالم و ما تدل عليه و فلسفة الفيزياء كما صنعتها نظريات النسبية و ميكانيك الكم و علم الكونيات الحديث، فلا تكاد تجد أحداً من الفلاسفة عندنا يفهمها و يبني أحكامه عليها ، والسبب أن الفلسفة الكلاسيكية ( أي فلسفة الفيزياء في القرونِ الثلاثةِ السابعَ عَشروالثامنَ عشر والتاسعَ عشر) تعطي صورة مُنْتَهية للكون و تُخاطِبُ الفهم البسيط للإنسان بما يُدَغدِغُ أحاسيسه و يُغريه بأن يقبله كحقيقة مطلقة، أما ما جَدَّ بعد ذلك من ثورات في الفكر العلمي والفلسفي ، فَيَنْقُضُ ذلك الأساس و يقيم أساساً آخر غريباً على الفهم البسيط و غيرَ منتهٍ في جوهره، ثم إن الأخذ بتلك التصورات مرة أخرى –وهي ناقضة لما قبلها أو قُل على الأقل هي مُخَصِّصَةٌ له إن شئتَ- يفتَحُ البابَ لتغييرها مرة أخرى كلما جَدَّتْ نظريةٌ جديدة ناقضة في القرن الحادي و العشرين و الثاني والعشرين و هكذا دوالَيْك. والمرء  المتوسّط الهمّة  لا يَسْتريحُ لهذا التَرْداد و هذا البحث و الجُهد الدؤوب للعقل لكَشف الحقيقة حتى نهاية الطريق أو نهاية الحياة (حياةَ صاحبه أعني) ، وإنما ذلك شأن العُلماء العاملين الذين تربّوا على طلَبِ العِلْم و درْكِ الحق بلا كَلَلٍ ولا جُمود.

فهذا ما جال في خاطري ، و قد نشدْتُ الله رجلاً قرأ كلامي هذا و سمعه فعلّق عليه بما يَنْفَعُ إنْ نَصْراً له و إنْ رَدّاً. والله من وراء القصد و هو ولي التوفيق.

ثم إني تذكْرْتُ أن عالماً من علماء المسلمين عاش قبل خمسين و مائة من السنين قد كتب قريباً من كلامي هذا يَشْتَكي من حال الفتور التي أصابت المسلمين و يَنْسِبُ جُلّه إلى ما أسماه : الغِرارة، و ذلكم عبد الرحمن الكوكبي في كتابه الشهير : أم القرى ، فنقلْتُ لكم نحواً مما جاء فيه:

قالَ عبدُ الرحمنِ الكواكِبي في كتاب “أم القُرى” في الاجتماع الثامِن-الصحيفة ١٥٢ ما يلي: –

 قال السيدُ الفُراتي: إن مِن أعظَمِ أسباب الفُتورِ في المُسلمين غرارَتُهم أي عدَمُ معرِفَتِهم كيف يحصُلُ انتظام المعيشةِ لأنهُ ليس فيهم مَن يُرشدهُم إلى شيء مِن ذلك بِخلافِ الأُمَمِ السائِرة فإن مِن وظائِفِ خِدمة الأديانِ عِندَهُم رَفعُ الغرارة أي الإرشاد إلى الحِكمةِ في شؤون الحياةِ. والأقوامُ الذين ليس عِندهم خِدمةُ دينٍ أو الشراذِمُ الذين لا ينتمون لِخدمةِ دينهِم فمستغنونَ عن ذلك بوسائِلَ أخرى مِن نحو التربيةِ المدرسية والأخذِ مِن كُتُبِ الأخلاقِ وكُتُبِ تدبيرِ المنزِلِ ومُفصَّلاتِ فنِّ الاقتصاد والتواريخِ المُتقنة والرومانات الأخلاقية والتمثيلية أي كُتب الحكاياتِ الوضعية ونحو ذَلِك مِمَا هو مفقودٌ بالكُلية عند غير بعض خاصةِ المُسلمين. 

على أن الخاصة السالمينَ مِنَ الغرارةِ عِلماً لا يقوون غالِباً على العَمَلِ بِما يعملون لأسبابٍ  شتى مِنها بل أعظَمُها جهالَةُ النِساء المُفسِدة للنشأةِ الأولى وقت الطفولية و الصبوة و مِنها عدَمُ التمرنِ و الأُلفة و مِنها عدمُ مساعدة الظروف المحيطة بِهم للاستمرار على نِظامٍ مخصوصٍ في معيشتِهم ثم قال لا أرى لزوماً للاستدلال على استيلاء الغرارة علينا لأنها مُدْرَكة مُسلَّمة عِند الكافة و هي ما ينطوي تحت أجوبَتِنا  عِند التساؤل عن هذهِ الحالِ بِقولنا : إن  المُسلِمَ مُصابٌ ، و إن الله إذا أحبَّ عبداً ابتلاه ، و أن اكثَرَ أهلِ الجنةِ البُلْهُ، و أنْ ” حسبُ ابنِ آدم لُقيماتٌ يُقِمْنَ صُلبَهُ “، و أنَّ غيرَنا مُستَدرَجون و أنهم كِلابُ الدُنيا، و أنهم أُعطوا ظاهِراً مِنَ الحياةِ الدُنيا  و أنهم في غفلةٍ عَن الموتِ و غفلةٍ عن أن الدُنيا شاخت . ثُم قال: فمِن الغرارةِ في طبقاتِنا كافة مِن الملوكِ إلى الصعاليك أننا لا نرى ضرورةً للإتقان في الأمورِ وقاعِدتنا أن بعضَ الشيء يغني عن كُلِّهِ والحقُّ أن الإتقانَ ضروريٌ للنجاح في أي أمرٍ كان بحيث إذا لم يكن مُستطاعاً في أمرٍ، يلزَمُ ويتحتمُ تَركُ ذلِكَ الأمر كُلياً والتحوُّلُ عنه إلى غيره المُستطاعِ فيه إيفاءُ حقِ الإتقانِ.

ومِنَ الغرارة توهُمنا أن شؤون الحياة سهلةٌ بسيطةٌ فنظُنُ أن العِلَم بالشيء إجمالاً ونظرياً من دون تمرُّنٍ عليه يكفي للعمل به فيُقدِمُ أحدنا مثلاً على الإمارة لِمُجردِ نظرهِ في نفسِهِ أنه عاقِلٌ مُدبِر قبل ان يعرفَ ما هي الإدارةُ عِلماً ويتمرنَ عليها عِلماً ويكتسِبَ فيها شُهرةً تُعينُهُ على القِيامِ بِها.

و يُقدِمُ الاخر مِنّا على الاحتراف مثلا ببيعِ الماءِ للشُربِ لِمُجردِ ظنه أن هذهِ الحِرفةَ عِبارةٌ عن حملِهِ قِرْبةً و قدَحاً و تعرضِّهِ للناسِ في مُجتمعاتِهم و لا يرى لزوماً لِتلقي وسائِلِ إتقانِ ذلِكَ عَمَّنْ يُرشِدُهُ مثلاً إلى ضرورةِ النظافةِ لَهُ في قِربته و قدحهِ و ظواهِرِ هيئتِهِ و لِباسِهِ و كيفَ يحفظُ برودةَ مائِهِ و كيف يستبرده و يوهِمُ بِصَفائِهِ  ليُشتهى بِهِ ، و متى يغلِبُ العطشُ ليقصِدَ المُجتمعاتِ و يتحرى مِنها الخاليةَ له عن الُمزاحمينَ و كيف يتزلفُ للناسِ و يوهِمُ بِلسانِ حالِهِ أنه مُحتَرِفٌ بالسُقيا كَفَّاً عن السؤال إلى نحو هذا من دقائق إتقان الصنعة المتوقِّفِ عليها نجاحُهُ فيها و إن كانت صنعته بسيطةً حقيرة ، و من الغرارة ظننا ان الكِياسةَ في “ أدري و أقدر” جواباً للنفس في مقاصِدَ كثيرةٍ شتى ، و الحقيقةُ ان الكِياسةَ لا تتحققُ في الإنسان إلا في فن واحدٍ فقط يتولع فيه فيتقِنُهُ حق الإتقان كما قالَ تعالى: ( و ما جعل اللهُ لرجلٍ من قلبينِ في جوفِهِ ) فالعاقِلُ من يتخصصُ بعملٍ واحد ثم يجاوِبُ نفسه عن كل شيء غيره” لا أدري لا أقدِرُ” لأن الاول يتكلفُ أعمالاً لا يُحسِنُها فتفسُدُ عليه كُلها و الثاني يتحرى لكلِ عملٍ لازِمٍ  لَهُ من يُحسِنه فتنتظِمُ أمورِه و يهنأُ عيشُهُ فالمَلِكُ مثلاً وظيفَتُهُ النِظارةُ العامة و انتخاب وزيرٍ يثقُ بأخلاقِهِ و يعتمِدُ علـي خبرته في انتخاب بقية الوزراءِ و السيطرةِ عليهم في الكُلّياتِ  فالمَلِكُ مهما كان عاقِلاً حكيماً لا يقدِرُ على إتقان اكثر من وظيفته المذكورة فالملِكُ إذا تغررَ و تنزّلَ  للتداخُلِ في أموِ السياسةِ و الإدارةِ الملكية أو الامورِ الحربية او القضاء فلا شك انه يكونُ كَرَبِّ بيتٍ يُداخِلُ طبّاخَهُ في مِهنَتِهِ و يُشارِكُ بُستانِيَّهُ في صنعَتِه فيَفْسُدُ طعامَهُ و يَبورُ بُستانُهُ فيشتكي ولا يدري أن آفَتَهُ مِن نفسهِ ، و من الغرارة اللوثُ في الأمور أي تركُها بلا ترتيبٍ و الحكمة قاضيةٌ على كُلِ إنسانٍ و لو كان زاهِدا مُنفرداً في كهفِ جبلٍ فضلا عن سائِس رعيةٍ أو صاحِبِ عائلةٍ أن يتخذ له ترتيباً في شؤونه و ذلك بأن يُر‎تب أولاً أوقاتَهِ حسب أشغالِه ويُرَتِّبَ أشغالَه حسب أوقاته و الشُغلُ الذي لا يجد له وقتاً كافيا يهملْهُ بالكلية أو يفوضه لمن يفي حق القيام بِه عنه ، ثانياً يُرتِبُ نفقاتِه على نِسبة المضمون من كسبه فإن ضاق دخلُهُ عن المُبرَمِ مِن خَرجِهِ  غيَّر طِرزَ معيشَتِهِ و لو بالتحولِ مثلاً من بلده الغاليةِ الأسعارِ أو التي مظهرُه فيها يمنعهُ من الاقتصادِ إلى حيثُ يمكِنه ترتيبُها (أي معيشَتِهِ) على نِسبةِ كسبـِهِ، ثالِثاً يُرتِبُ تقليل غائِلةِ عائِلته عند أول فرصة مُلاحِظاً إراحة نفسه من الكَبَدِ في دَوْرِ العَجْزِ مِن حياتِه فيربي أولادَهُ ذكورا و إناثاً على صورةِ أنَّ كلاً منهم متى بلغ أشُدّهُ يمكِنُهُ أن يستغنيَ عنهُ بِنفسهِ مُعتَمِداً علي كسبه الذاتي و لو في غير وطنه ، رابِعاً يُرتِبُ أموره الادبية على نسبة حالته المادية أعني يُرتِبُ امورَهُ الدينيةَ ولَذَّاتِه الفكريةَ و شهواتهِ الجسميةَ ترتيباً حسناً فلا يحمّل نفسهُ مِنها ما لا تطيق الاستمرار عليه ، خامساً يُرتِبُ مَيلهُ الطبيعيَ للمجدِ و التعالي على حسب استعدادِه الحقيقي فلا يترُك نَفسه تتطاولُ إلى مقاماتٍ ليس مِن شأن قوتِه الماديةِ أن يبلُغَها إلا بِمحضِ الحظ و الصُدَف. وخُلاصةُ البَحثِ أن الغرارة مِن أقوى أسبابِ الفُتورِ وقد أطلتُ في توصيفِها وإيضاحِها ليتأكد عند السادةِ الإخوان أن إزالة أسباب الفتور الشخصي ليس من عقيماتِ الأمور

0 0 أصوات
Article Rating
اشترك
Notify of

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

3 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Eyados
Eyados
9 years ago

تعقيبا على النقطة الخامسة, للأسف الشباب المسلم في أيامنا يتشكل في أحد قطبين متعاكسين, إما فكر خارجي إقصائي لا يرى أحدا همه إدخال البشرية جمعاء في النار, أو فكر إرجائي بحت لا يرى أي مشكلة حتى لو كانت إفسادا في الأرض و إهلاك الحرث و النسل.

3
0
نحب سماع رأيكم ، فأفيدونا من فضلكمx
()
x