وما اخْتَلَفَ الذين أُوتُوا الكتابَ إلا مِنْ بَعْدِ ما جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ و مَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللهِ فإنّ اللَّهَ سَريعُ الحِسابِ.
يقول (Sale) مترجم القرآن إلى الانكليزية عن نصارى القرن السادس الميلادي : (وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية حتى فاقوا في ذلك الكاثوليك في هذا العصر) .
الحرب الأهلية الدينية في الدول الرومية :
ثم ثارت حول الديانة وفي صميمها مجادلات كلامية، وسفسطة من الجدل العقيم شغلت فكر الأمة ، واستهلكت ذكاءها ، وابتلعت قدرتها العملية ، وتحولت في كثير من الأحيان حروباً دامية وقتلاً وتدميراً وتعذيباً ، وإغارة وانتهاباً واغتيالاً ، وحولت المدارس والكنائس والبيوت معسكرات دينية متنافسة وأقحمت البلاد في حرب أهلية ، وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية ، وبين نصارى مصر ، أو بين (الملكانية) و (المنوفيسية) بلفظ أصح ، فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح ، وكان المنوفيسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة ، وهي الإلهية التي تلاشت فيها طبيعة المسح البشرية ، كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له . وقد اشتد هذا الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع ، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين ، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى ، كل طائفة تقول للأخرى : إنها ليست على شيء . يقول الدكتور ألفرد . ج . بتلر :
( إن ذينك القرنين كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين ، نضال يذكيه اختلاف في الجنس واختلاف في الدين ، وكان اختلاف الدين أشد من اختلاف الجنس ، إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت تلك بين الملكانية والمنوفيسية ، وكانت الطائفة الأولى- كما يدل عليها اسمها- حزب مذهب الدولة الإمبراطورية وحزب الملك والبلاد ، وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة ، وهي ازدواج طبيعة المسيح ، على حين أن الطائفة الأخرى وهي حزب القبط المنوفيسيين –أهل مصر- كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها ، وتحاربها حرباً عنيفة في حماسة هوجاء يصعب علينا أن نتصورها أو نعرف كنهها في قوم يعقلون ، بلة يؤمنون بالإنجيل) .
وحاول الإمبراطور هرقل (610-641) بعد انتصاره على الفرس سنة 638 جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها ، وأراد التوفيق ، وتقررت صورة التوفيق ، أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح ، وعما إذا كانت له صفة واحدة ، أم صفتان ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد . وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك وصار المذهب المنوثيلي مذهباً رسمياً للدولة ، ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية ، وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المختلفة له متوسلاً إلى ذلك بكل الوسائل ، ولكن القبط نابذوه العداء وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف ، وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة ، وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف ، فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة ، وأما المسألة الأخرى ، وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل ، فأرجأ القول فيه ، ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراتها ، وجعل ذلك رسالة رسمية ، وبعث بها إلى جميع جهات العالم الشرقي ، ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر ووقع اضطهاد فظيع على يد قيرس في مصر واستمر عشر سنين ، وقع خلالها ما تقشعر منه الجلود ، فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون إغراقاً ، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين على الأرض ، ويوضع السجين في كيس مملوء من الرمل ويرمى به في البحر ، إلى غير ذلك من الفظائع .
الانحلال الاجتماعي والقلق الاقتصادي :
بلغ الانحلال الاجتماعي غايته في الدولة الرومية والشرقية ، وعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات ، وتضاعفت الضرائب . حتى أصبح أهل البلاد يتذمرون من الحكومات . ويمقتونها مقتاً شديداً . ويفضلون عليها كل حكومة أجنبية ، وكانت الإيجارات والمصادرات ضغثاً على إبّالة ، وقد حدثت لذلك اضطرابات عظيمة وثورات . وقد هلك عام 532 في الاضطراب ثلاثون ألف شخص في العاصمة . وعلى شدة الحاجة إلى الاقتصاد في الحياة أسرف الناس فيه ، ووصلوا في التبذل إلى أحط الدركات . وأصبح الهم الوحيد اكتساب المال من أي وجه ، ثم إنفاقه في التظرف والترف وإرضاء الشهوات .
ذابت أسس الفضيلة . وانهارت دعائم الأخلاق . حتى صار الناس يفضلون العزوبة على الحياة الزوجية ليقضوا مآربهم في حرية . وكان العدل كما يقول (سيل) يباع ويساوم مثل السلع . وكانت الرشوة والخيانة تنالان من الأمة التشجيع . يقول (جيبون) : (وفي آخر القرن السادس وصلت الدولة في ترديها وهبوطها إلى آخر نقطة . وكان مثلها كمثل دوحة عظيمة كانت أمم العالم في حين من الأحيان تستظل بظلها الوارف . ولم يبق منها إلا الجذع الذي لا يزداد كل يوم إلا ذبولاً ) . ويقول مؤلفو (تاريخ العالم للمؤرخين) : (إن المدن العظيمة التي أسرع إليها الخراب ولم تسترد مجدها وزهرتها أبداً ، تشهد بما أصيبت به الدولة البيزنطية في هذا العهد من الانحطاط الهائل الذي كانت نتيجته المغالاة في المكوس والضرائب والانحطاط في التجارة ، وإهمال الزراعة ، وتناقص العمران في البلدان ).
مصر في عصر الدولة الرومية ديانة واقتصاداً :
أما مصر ذات النيل السعيد ، والخصب المزيد ، فكانت في القرن السابع من أشقى بلاد الله بالنصرانية ، وبالدولة الرومية معاً ، أما الأولى فلم تستفد منها إلا خلافات ومناظرات في طبيعة المسيح ، وفي فلسفة ما وراء الطبيعة والفلسفة الألهية . وقد ظهرت في القرن السابع في شر مظاهرها ، وأنهكت قوى الأمة العقلية ، وأضعفت قواها العملية ، وأما الأخرى فلم تلق منها إلا اضطهاداً دينياً فظيعاً واستبداداً سياسياً شنيعاً تجرعت في سبيلهما من المرائر في عشر سنين ما ذاقته أوربا في عهد التفتيش الديني في عقود من السنين ، فألهاها ذلك عن كل وطر من أوطار الحياة ، وعن كل مهمة شريفة من مهمات الدين والروح ، فلا هي تتمتع بالحرية السياسية رغم كونها مستعمرة رومية ، ولا هي تتمتع بالحرية الدينية والعقلية ، رغم كونها نصرانية .
ويقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) :
(ولقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية . ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي ، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن . وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات ، وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية ، وأنهكها استبداد الحكام تحقد أشد الحقد على سادتها الروم . وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين).
ويقول الدكتور الفرد .ج . بتلر في كتابه (فتح العرب لمصر) :
( فالحق أن أمور الدين في القرن السابع كانت في مصر أكبر خطراً عند الناس من أمور السياسة ، فلم تكن أمور الحكم هي التي قامت عليها الأحزاب ، واختلف بعضها عن بعض فيها ، بل كان كل الخلاف على أمور العقائد والديانات ، ولم يكن نظر الناس إلى الدين أنه المعين يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل الصالح ، بل كان الدين في نظرهم هو الاعتقاد المجرد في أصول معينة .
( فكان اختلاف الناس ومناظراتهم العنيفة كلها على خيالات صورية من فروق دقيقة بين المعتقدات ، وكانوا يخاطرون بحياتهم في سبيل أمور لا قيمة لها ، وفي سبيل فروق في أصول الدين وفي فلسفة ما وراء الطبيعة يدق فهمها ، ويشق لإدراكها ) .
هذا ، وقد اتخذها الروم شاة حلوباً يريدون أن يستنزفوا مواردها ، ويمتصوا دمها ، يقول ألفرد:
(إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثيرة العدد..مما لاشك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل)
ويقول مؤلفو (تاريخ العالم للمؤرخين) :
( إن مصر كانت تضيف إلى مالية الدولة البيزنطية مجموعاً كبيراً من حاصلها ومنتجاتها ، وكانت طبقات الفلاحة المصرية – مع حرمانها من كل قوة سياسية ومن كل نفوذ – مرغمة على أداء الخرج للدولة الرومية ككراء الأرض فضلاً عن الضرائب ، وكانت ثروة مصر في هذا العهد إلى الانتقاص والانحطاط ) .
وهكذا اجتمع لمصر من الاضطهاد الديني ، والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي ما شغلها بنفسها ، وكدر عليها صفو حياتها ، وألهاها عن كل مكرمة .
عن كتاب " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" لأبي الحسن الندوي رحمه الله.
هل تحسون أن الكاتب يتحدث عن خلافات فرق المسلمين العقيمة في هذه الأيام حول صفات الله و تشبيهه بخلقه و ما إلى ذلك ؟؟ وهل تحسون أن الاعدامات و فنون التعذيب الموصوفة هنا تتحدث عما يفعله هؤلاء بضحاياهم المساكين حين يقعون في أيديهم ؟؟؟
ما أشبه اليوم بالأمس و ما أشأم الأمة التي لا تتعلم من التاريخ….
قال سيدنا رسول الله ﷺ
(إنَّ أَخْوَفَ ما أخافُ عليكم رجلٌ قَرَأَ القرآن، حتّى إذا رُئيتْ بَهْجَتُهُ عليه، وكانَ ردءاً للإسلام؛ انْسَلَخَ مِنْهُ ونَبَذَهُ وراءَ ظَهْرِهِ، وسَعَى على جارِهِ بالسيف، ورَمَاهُ بالشِّرْكِ،
قلتُ : يا نبيَّ الله! أيُّهُما أوْلَى بالشِّرْكِ، الرامي أو المَرْمِيُّ ؟
قال : بلِ الرامي).
حديث حسن أخرجه ابن حِبَّان في صحيحِه والبخاريُّ في تاريخِه والبزَّارُ وغيرهم.