٣- سوابِقُ الهِمم لا تخرِقُ أسوار الأقدار

سوابِقُ الهِمم لا تخرِقُ أسوار الأقدار

شرح سيدي الشيخ أحمد زروق:

قُلتُ: بَل تدورُ مَعَ القَدر كيفما دار حَسبما دلّت عَليهِ العُقول وقضايا الشَرع والنُقول فقد قالَ الله تعالى: (وَكانَ اللهُ على كُلِّ شيءٍ مُقْتَدِراً) الكهف-٤٥ وقالَ صلى اللهُ عليهِ وسلم: كُلُّ شيءٍ بِقضاءٍ وقَدَرٍ حتى العَجْزُ والكَيْسُ. (صحيح مُسلم).

وأنواع الهِمم ثلاثة: –

١-الهِمَمُ القَواصِر وهي التي تقتضي العَزمَ والحَزمَ مِن غيرِ فِعلٍ ولا انفعال.

٢-والهِمَمُ المتوسطِة وهي التي توجِبُ مع العَزمِ فِعلاً ومع الحَزمِ كمالاً، سواءٌ أوَقَعَ انفعال أو لا.

٣-والهِمَمُ السوابِق وهي قوة النَفسِ الفعّالة في الوجود بلا توقّف كما يكونُ مِنَ العائِنِ، عن خُبثِهِ ومِنَ الساحِرِ عَن عُقَدِهِ ونُفَثِه ومِنَ المُتَريّضِ عَن تجريدِ قُوة نَفسِهِ ومِنَ الوليّ عن تَحَقُقِهِ في يَقينهِ إذ لا يتوقفُ الانفعال في كُلٍ عَن حَركة وذَلِك بِقضاءِ اللهِ وقَدَرِه كما هو. وقد قالَ في حَقِ السَحرة: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلا بإذْنِ اللّهِ). البقرة -١٠٢

ثُمَ سَبْقُ هذهِ الهِمَم إنما هو في الرُتبةِ باعتبار جَلالِها لا في المَرتبةِ في اعتبار تَقَدُمِ أزمِنَتِها، وجَلالُها بِسُرعةِ نُفوذِها وقوةِ تأثيرها وعَدَمِ احتياجها في نُفوذِها لسببٍ مُعيّن وإذا كانتْ مع ذلِكَ لا تخرِقُ أسوار الأقدارِ فكيفَ بالتَدبيرِ والاختيار وما لا فائِدة فيه: فيهِ تَعَبٌ عاجِل يتعيّنُ تَركُهُ على كُلِ عاقٍل فلِذلك عقّبَ المسألة بأن قال:أَرِحْ نفسَكَ من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك

شرح الشرح:

قلتُ: الحكمة بسيطة المَبْنى والمعنى غيرَ أن فيها لطائف وأسراراً

وقد قسَّمَ الشارِحُ الهِمَمَ إلى ثلاثة أنواع

الهمم القواصر: وهي هممنا في الغالب الأعم وما أجدَرنا-من تقصيرٍ وخذلانٍ-بقوله تعالى: كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون

ولو شِئْتُ أَنْ أتكلَّمَ عن قِصَرِ هممنا وتَنَكُّبِنا عن الاستقامة عن كل ما عَزَمْنَا عليه لَطَالَ الكلامُ، وأنا زَعيمٌ أنَّكُم لو شِئْتُمُ الكلامَ على ذاتِ الموضوعِ لما كان الأمرُ مختلفاً.

والهمم المتوسطة: وهي هِمَمُ العظماء من الرجال والأعلام – وهِمَمُنا في القليل النادر من الزمان-والتي يتوقَّفُ تَحَقُّقُهَا في الخارجِ (أي في العالَم الحقيقي) على الظروفِ والمقدَّماتِ والأسبابِ الماديةِ. وأظن هذا مألوفاً لدى الجميعِ أيضاً.

والهمم السوابق: وهي ما شاءتْ حِكْمَةُ الله وسُنَّتُهُ في خلق الكَوْنِ أن يكونَ لها الأثَرُ اللازمُ منها حالَ وُقوعِها فكأنَّما تَجري مَجْرَى الأسبابِ الطبيعيةِ: وهذه قد تَدْخُل فيما يُعرَفُ أيَّامَنا هذهِ بالقُوى والوسائطِ الروحانية  [parapsychology]  كتأثير المُسْتَبْصِرينَ  في أغراضِهم ومَفْعُولاتِهِم، و كتأثيرِ المعلمينَ العظامِ في تلامذتِهم و كتأثير الشيخ الهُمام في مريديه و ذلك بقوةِ رياضتِه و كرامتِه (و الرياضةُ مصطلحٌ صوفيٌ يعني مجاهدةَ النفسِ لتحصيل خصائصَ روحانيةٍ عاليةٍ)، و كذا كلُّ ما يَقَعُ مِنْ نتيجتِهِ مَوْقِعَ السَبَبِ المُؤَثِّرِ بلا تَخَلُّف (أي بلا استثناءات). وقد ذكر الشيخُ زروق قدَّسَ الله سِرَّهُ أمثلةً من واقع زمانه فَيُرْجَعُ إليها.

والمقصود من الحكمة أن الهمم السوابق التي لا تتخلف نتائجها –عادة-لا تَخرق الأقدار المكتوبة فَكيْفَ بغيرها من الهمم وهي أضعف منها وأدنى؟

وههنا لطيفة: فالهمم في اللغة جمع هِمَّة وهي –عند التحقيق-منزِلَةٌ بين الإرادة والعزيمة ـ فلو تصورنا تقسيم الفعل وإرادته في النفس الإنسانية، فأول مراتب القصد هي الإرادة وهي توجه النفس نحو القصد يليها الهمة وهي قوّة في النفس تقتضي تصوّرَ المقصود والسبيل إليه مع دوام الطلب، ثم تليها العزيمة وهي أقوى المراحل وفيها ينقَدِحُ الفعل مالَمْ يمْنَعْ منه مانع فيزيائي أو قوة أخرى. وقد تأتي الهمة والعزيمة بمعنى واحد وهو ما عناه صاحب الحكم في رأيي.

فلماذا عبَّرَ بالهمم ولم يُعَبِّر بالفعل الخارج ؟؟ فنحن نعلم أن أسوار الأقدار لا تُخْتَبَرُ إلا بالأفعال الحاصلة في الخارج.

والجواب فيما يلوح لي أن الهمم من شأن الانسان الداخلي التي تبدو له من مملكته وتحت سلطانه، فعبَّر بها مناسَبةً للقصد بأن يُعَلِّمَ السالكَ أن الهمم وإن كانت تبدو داخلية وشأناً بشرياً خاصاً إلا أنها أيضاً محكومة بالأقدار الإلهية (حتى الهمم….).

ثم إن جُمَّاعَ بَغْيِ الانْسَانِ وطُغْيانِه يَنْشَأُ وَيَتَكامَلُ  في إِرَادَتِهِ أمَّا فِعْلُهُ فَمَخْلُوقٌ  للهِ على رَأْيِ كُلِّ المسلمين -ماخَلا المعتزِلَةَ-، وهو خاضعٌ للظروف والمناسبات المادية كما أسْلَفْنَا. ولأنَّ الحكمةَ التي تليها تدلُّ على طريقِ الراحةِ بتركِ التدبير (والتدبيرُ على الحقيقة صادرٌ من الهمم ومن ظَنِّ أنَّها تَسْبِقُ القدَر إنْ جرَتْ قَبْلَ فَواتِ أوانِها كما يَظُنُّ الناسُ في أيامنا هذه من تدبيرِ “مُسْتَقْبَلِ الأولادِ” وجامعاتِهم وزيجاتِهم !!!  كأنهم خَلَقُوهم ويُدَبِّرُونَ معاشَهَمْ)، فلأجل كُلِّ ذلكَ عَبَّرَ بالهمم. والله أعلم.

ولطيفةٌ ثانية: كان شيخُنا رحمه الله يقول: تلك الهمم هي الهمم بالنفس وهي لا تخرق أسوار الأقدار ولكن الهمَّة بالله تخرق أسوار الأقدار. وهذا كلام صحيح وإن بدا غريباً ولكنْ ليسَ هذا مَوضِعَ بَسْطِهِ، ويكفي أن نعلمَ الآنَ أنَّ هذا من قَوْلِهِ تَعالى: (يَمْحُو اللهُ ما يشاءُ ويُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ) -الرعد-٣٩

 

تصفح :<< ٦- لا يَكُنْ تَأَخُّرُ أَمَدِ العَطَاءِ مَعَ الالْحَاحِ في الدُّعَاءِ مُوجِبَاً لِيَأْسِكَ٥- اجْتِهادُكَ فيما ضُمِنَ لك  وتَقْصِيرُكَ فيما طُلِبَ منْكَ، دليلٌ… >>
0 0 أصوات
Article Rating
اشترك
Notify of

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

3 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
dahouk
dahouk
9 years ago

هل الهمة تأتي وتذهب كما الإرادة ؟ ثم كما تغير العزيمة بالله من القدر كذلك ألا تغيره العزيمة بغيره اذا كان الإيمان بقدرة غيره وصل الى مصافي الإيمان بقدرته جل وعلا؟ وجزاك الله خيرا

3
0
نحب سماع رأيكم ، فأفيدونا من فضلكمx
()
x