أركان الفلاح

أركان الفلاح

بسم الله الرحمن الرحيم

للهِ الحمدُ بما أنْعَمَ وتَفَضَّلْ، وله يَرْجِعُ كلُّ أَمرٍ مِفْصَلْ، وبه رِزْقُ الخلائقِ قد تحصّلْ.

والصلاةُ والسلام على رسولِهِ الخاتَم النبي الأمي المُبَجّلْ، الذي وَصَفَتْهُ الأنبياءُ من قَبْلُ بكلِّ وصفٍ مُفَصَّلْ، وتَعَلَّقَ به أَمَلُ أُمَّتِهِ وكلٌّ توسلْ، إلا من رَفَضَ وتَأَوَّلْ، فَرَحْمَةُ اللهِ تَسَعُ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ.

وعلى آلهِ النجباءِ الطاهرين الكُمَّلْ، صلاةً وسلاماً دائمينِ إلى يوم الدين الفَيْصَلْ.

وبعدُ، فقد قرأتُ رسالةً لأُختٍ عزيزةٍ تَبْسُطُ فيها ما أَهَمَّهَا من أمرِ التَعَلُّمِ والتعليم وبَذْرِ حُبِّهِ في القلوبِ اليافعةِ قلوبِ أولادِها وأولادِ قومها وأمّتها، ولمسْتُ حيرَتها فيما ذكَرَهُ الأفاضِلُ من بني قومها عن أركانِ التعلُّم وعما يَنْقُصُ بناتِها وأتْرابِهِنَّ كي يُحَصِّلوا الفائدةَ التي تُرْجى من كلِّ هذا الجُهد المبذول لإنتاج إنسانٍ أفضلَ وأكرم.

والحقَّ أقول: إن هذا موضوعٌ شائكٌ وإنْ أدْلَيْتُ بِدَلْوي فيه فلا بُدَّ من الْتِماسِ العُذْرِ لي في كَثْرَةِ الخطأ وشُيوع الغَلَطِ في الإفهام  والتعليم سِيَّمَا أيامُنا هذه!

فأقول:

أصابتْ صاحبةُ المقالِ ((المقال الأصلي باللغة الانكليزية))في قولها إن الأركانَ التي ذكرها السيد كْلَكْسْتُنْ ناقصةٌ! وما يَنْقُصُها أمرٌ عظيم الشأن جليل الخطر وهو: الخُلُق!!

وقد أزيدُ فأقول: إن كلَّ هذه الأركان السبعة لا تعدو أن تكون كلمات وصفية ظاهرية كشأن معظم نتاج هذه الحضارة الحديثة (الاتجاه إلى وصف كامل لما يظهر لنا متجاوزين عما وراءه إلا أن يكون تفسيره أمراً مادياً يمكن افتراضه (أو حشره) في داخل الظاهرة)

فكيف نحصل على تلك المظاهر مثلاً والتي عدها الأستاذ ونقلته عنه الأخت بقولها:

1- الثقة

2- الفضول

3- التعاون

4- التواصل

5- الإبداع

6- الالتزام

7- الصَنْعَة

جميلٌ أن يكون لكل أولادنا أو جُلِّهِم على الأقل كلُّ هذه المزايا الحِسان ولكن كيف ؟؟ 

دعيني أرى رأيي فيما يقول القرآن في صفات العباد الصالحين الذين يرتضيهم لخلافته في الأرض وتمثيله ولأسعى لمعارضة (أي مماثلة) هذه الأركان السبع بنظائرها من القرآن الذي هو دستور كل مسلم ومرجعه الذي يرجع إليه:

 

الفضيلة العَلمانية

الفضيلة في القرآن
الثقة بالنفسالايمان بالله
الفضولالدعوة إلى التفكر في ملكوت الله-إجلال العلم لذاته
التعاونالتعاون على البر والتقوى وليس على الاثم والعدوان
التواصلالتراحم
الابداعذم التقليد-المسؤولية الفردية عن الذات
الالتزامالاستقامة
الصنعةحِرَفُ الأنبياء

أولاً – مشكلة التوصيف العلماني(المادي) هذا أنه قاصرٌ على مظهر الخصيصة ولا يتعلق بجذرها. فمثلاً لو سألنا عن مدى ثبات هذه الخصلة (أو الخصيصة) عبر الزمن أو عبر المِحَنْ والأزمات لما حصلنا على جواب مفيد. لأن درجة قوة الخصلة لا تدخل في تعريفها بل هي أمر غامض متروك لقوة الانسان. والحقيقة أن هذا يقودني إلى الاستدراك على السيد كلكستن وإضافة خصلة مهمة جداً يجب أن يتمتع بها كل طالبٍ مُتَخَرِّجٍ مُعَدٍّ للنجاح في الحياة (كما يقول)، ألا وهي: الصبْر!!!!

أين الصبرُ من فتيانِ وفتياتِ اليوم؟ وأين هم منهُ؟

وكيف يكون نجاحٌ بلا صبرٍ ولا شدّةِ تحمُّل؟؟؟

ثم إن الصبر يقودني إلى ملاحظة أن هذه الخصلة لا يمكن أن تكتفي بالاعتماد على المادة وحدها، فهي خلُق عريق في الأخلاق، وثيقُ الصلة بما وراء المادة (الميتافيزيقا) وهي بهذا لا يمكن أن يشتد عودها بدون الخصلة الأولى وهي: الايمان بالله (أو الغيب).

ونحن نرى كثيراً من الغربيين في بلادنا هذه وفي بلادهم، يتَّصِفُون بدرجة عالية من التهذيب والأدب الظاهر حتى يكادُ الجاهل يتّخذهم مثالاً في كل شيء. ولا يُنْكَرُ تهذيبهم وأدبهم الجَمُّ ولا عدْلُهم الظاهر، ولكن حين يُخْتَبَرُ هذا الأدبُ مع السَّفَه أو حين يُختَبر مع المِحَن (أي حين يُخْتَبُرُ الحِلْمُ والصبر) لا تَجِدْهُ في الأكثر إلا من رحم ربك.

ثانياً-دعونا نتفحَّص هذه الأركان في القرآن واحدةً واحدة:

  •  الايمان بالله: هذا هو أُسُّ وأساسُ كلِّ فضيلة، فَبِغَيْرِه لا تستقيمُ كلُّ الخصال التالية المذكورة ِبعدَه إذ كلها مُعتَمِدَةٌ عليه ونابعة منه. ولكن يعنيني هنا الحديثُ عن الثقة بالنفس وهو المعادلُ العَلْماني المطلوب. ولو قلنا: الايمانُ بالنفس لكان أقْرَبَ إذْ كلمةُ “الايمان” جامعةٌ لمعاني الثقةِ والتصديقِ وذلك أقربُ للمقابلة وأوفقُ للمعارضة

فنحن إذاً أمام مقارنة بين الايمان بالنفس والايمان بالله.

ولَسْتُ الان في مقام المُناظر أو الُمناقش لغير المؤمن حتى أُبَيِّنَ ما بين الكلمتين من بَوْنٍ شاسعٍ وأصل واحد، وأظنني أخاطب مؤمناً أو مؤمنة في هذا المقام. فأقول وبالله العون: إن الايمان بالله هو مصدر كل القوى التي يمكن أن تهبِطَ على النفسِ فتكتسِبُها، ومن ذلك يصِحُّ الايمانُ بالنفس كتابعٍ للإيمانِ بالله. وانظروا من حولكم تجدوا ذلك شرطاً لحصول الثقة بالنفس. إذ كيف يُتَصَوَّرُ أنْ يَثِقَ إنسانٌ لم يُؤْتَ حظَّاً من الدنيا بنفسه بأنه سوف يُؤْتى من الدنيا بنصيبٍ يجعله في مصافِّ أهلها وكلُّ ذلك بلا ايمان بقوةٍ قاهرةٍ من نوع غيبي؟؟؟

والحاصل: اننا إذا فرَّغْنا الناس من هذا الايمان وجعلناهم قاصرين على ما يجدونه في أنفسهم (مع التأكيد على أن هدف الحياة هو الدنيا !!!) فلن يثق أحدٌ بنفسه إلا من أوتي أصلاً حظاً عظيماً من المواهب، ومن لم يُؤْتَ ذلك فسيظل حبيس الفشل والتشاؤم والذِلَّة. فأين التربية ههنا وأين الاختيار؟؟

وقد يقول قائل إن الايمان بالله أو أي اسم بديل (كالطبيعة مثلاً) جائز ومستخدم بهذا المعنى لتحصيل الثقة بالنفس

(وإلى ذلك تُرَدُّ مجموعة من المصطلحات المستخدمة في الادبيات الغربية: كالطبيعة وأمنا الطبيعة والقدر “بنفس المعنى الذي كان يستخدمه الاغريق القدماء أي الصيرورة”). والجواب أنه لذلك قال الله العظيم في كتابه:

الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.

فقرَنَ الايمان بالله بالإيمان بالغيب (وذلك في مواضع) كي يستبينَ أن “الله” الذي يؤمن به المؤمنون لا يجوز أن يتماهى مع المادة أو الطبيعة حتى يصبح مكشوفاً!! فهو غيب الغيوب جل جلاله.

  • الفضول: لا أرى أن السيد كلكستن كان موفقاً في اختيار هذه الخصلة إلا إذا كان يقصد ألا تُــؤَدِّي التربية إل قتل الفضول عند الانسان. لأن الفضول من الفطرة وأظنه عنى الفضول العلمي.

وفي القرآن عشرات الآيات الداعيات إلى البحث والمعرفة واستكْشاف واستكْناه ملكوتِ الله، بل إن أكثر ما يميز دعوة القرآن هذه يمكن إيجازه بكلمة: التحدّي. وأنتم خبيرون أن التحدي أفضل علاجٍ لخمولِ الفضول. ثم إن الحديث عن عوالمَ مختلفةٍ (مُلك وملكوت وجبروت، أمم من الطير والحيوان وعوالم من الجن وغيرهم) بإشاراتٍ بليغةٍ وجيزةٍ مع فَسْحِ المجالِ للناس ليبحثوا بأنفسهم عن تفصيلِ كلِّ ذلك لَهُوَ من أشدِّ البواعث على الفضول العلمي.

على أنني ألفت الانتباه إلى أمر آخر هو من أشد البلايا التي ابتُليَ بها العلم (ومعه الفضول) في عصر الماديات هذا وقد سَمَّيْتُ هذ الأمر في الجدول أعلاه بــ: إجْلال العلم لذاته.

لأن عصرنا هذا قد شاع فيه إجلال العلم لمنفعته المادية أو السلطوية أو التسلطية، فلا يُعبأُ بعلم مالم يكن مادياً طبيعياً ويعود بنفع مالي أو ما ناب عن النفع المالي. ولا أظنني بحاجة لسرد الأمثلة لأمثالكم وأنتم أبناء هذا الزمن.

أما القرآن فيقدّرُ العلم والعلماء وكأن العلم هو جوهرة بحد ذاته، وقد دَرَجَتْ عادةُ العلماء المسلمين من قبلُ على تقسيم العلوم الى نظرية وعملية والتفضيلِ بينها على أساس تفاضل موضوعاتها ومعلوماتها وقد عَدُّوا العلمَ بالله أشرفَ العلوم (وهذا ما يقابل عند أسلاف الغربيين: الفلسفة، وقد دَرَسَتْ واندثرتْ في أيامنا هذه وخَلتْ إلا من طيوف هنا وهنالك تابعة للعلم الحديث (Science).

  •  التعاون: وهذا شبيه بما في القرآن غير أن القرآن يربط كل شيء بمقاصدَ عليا وغاياتٍ كبرى لمُجْمَلِ الحياة الإنسانية على هذا الكوكب، فالتعاون في المدارس الحديثة (ولا أقول الغربية فقط فهذا البلاء قد عَمَّ) قد يكون في أشياء كثرة، كثيرٌ منها ضار ولا نية صالحةً له. والقرآن يقول: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان.
  • التراحم: وهذا شبيه بسابقه: إذ المقصود بالتواصل غايته وهو التراحم والتعايش أما التواصل كمهارة بلا هدف سامٍ فقد يُستخدم في أغراضٍ كثيرة وكثير منها لإشباع غايات النفس واضطراباتها. ولن يتواصل الناس إن لم يكن لتواصلهم معنى راقٍ يبعث في نفوسهم الراحة والسعادة.
  •  الابداع: أحسَبُ (وقد أكون غالطاً) أن الابداع في المدارس الغربية أمرٌ فيه شيءٌ من التَشَدُّدِ وحمْلِ الطلابِ عليه بحدٍّ زائد، وكأن انشاء الجديد على غير ما مثالٍ سابق (وهو البديع في اللغة) هو أمر مطلوب لذاته! ولو عنى ذلك تدمير بَدَهِيّات الفكر الإنساني والحِسِّ الإنساني.

أما في القرآن فإنه يذم التقليد الأعمى بغير دليل ولا يُلزِمُ الناس أن يكون لكل منهم خُطة جديدة في الحياة أو أن يكون لكل عصرٍ إبداعٌ وتغييرٌ لكل شيء (فليس كل ما صنعه الانسان وأوجده من قديم الزمان جديراً بالمحو والترك لمجرد أنه قديم، بل هناك أشياءُ خالدةٌ وغاياتٌ عظيمةٌ ومبادئُ أخلاقيةٌ كريمةٌ لا تتغيرُ عبر العصورِ (ومنها صفاتُ الله تعالى وعليها نقيسُ في حقنا كبشر).

الاستقامة: وقد تكلمنا كثيراً على ذلك وأن الاستقامة تزيد على الالتزام بنبل الغاية وعمومها وأيضاً بالصبر، لأن الصبرَ يظهر عند تعارضِ الالتزامِ مع ظهور النتائج السريعة فإن كان صبرٌ حصلتْ الاستقامةُ وإلا وُجِدَتْ ألفُ طريقة لتحوير وتغيير الالتزام.

في كل ما ذكرناه سابقاً حتى الآن ارتباطٌ وثيقٌ بالله والايمان به. إذ كل هذه الأركان نابعةٌ عنه ومستمِدَّة منه.

  •  الصنعة: ذكر القرآن صَنْعَةَ نوحٍ وأنه كان نجاراً وصنعةَ داود وأنه كان حداداً يصنع الدروع السابغات وكذا سليمانُ الذي أوتي قوىً خارقةً ومُلْكاً. وفي المأثور أن إدريسَ عليه السلام كان خياطاً ولم يَخْلُ نبي من الأنبياء من صنعةٍ وكان عليه الصلاة والسلام راعياً للغنم.

وعند العرب كانت الفروسيةُ صنعتَهم (اليدوية) والتجارةُ حِرفَتَهم (المادية).

وفي عالم اليوم هناك مجال كبير للإتقان في كثير من الحِرَفِ والصناعات والرياضات ولكني أخاف أن أقول إن الاتجاه الطاغي للتكنولوجيا التي تسير فيها بلادُ السيدِّ كلكستن وأمثالِه وبلادٌ أخرى أمثالُها يعاكس تماماً تطويرَ أيِّ مهارة أو صنعة يدوية وخذي مثالاً على ذلك الخط. إذ كان الخطُّ حتى عهدٍ قريب أكثر ما يمكن للمرء أن يُتْقِنَهُ وأقْرَبَ (لكثرة ممارسته وقُرْبِهِ من شخصية الانسان وطِباعه). واليومَ تكادُ لا تجدُ من يكتب بخطِّه، فالكل يستخدم الكمبيوتر للطباعة. وهذا يسيرٌ بجانب كثرة المعروض من حلول تكنولوجية تغني عن صنعة أي شيء تقريباً.

فمالِ مسلمي هذا الزمن كيف يَحْكمون؟؟ أعندهم هذا الدستور الإلهي ثم هم عنه يُعرضون؟ ويبتغون ما عند الأجانب الذين هم في إيمانهم ملحدون؟ /أي مائلون زائغون/  وفي أحسن الأحوال يقولون: مانحن بعالمين (AGNOSTICS)

ثم يطلبون هدى ما عندهم؟ ومن أهدى من الله سبيلاً.

هذا هو الجزء الأول من جوابي وخطابي

ويليه سريعاً إن شاء الله تعالى الجزءُ الثاني وفيه الحديثُ عن المقاصِدِ البعيدة لله من خلق الكون وفيه نتحدث عن أركان أخرى للفلاح منها ما ذكرتِ وهي العِفّة وكذلك نبين مخطّطَ العلاقة بين الأركان إن شاء الله.

وكتبه العبد الفقير دوماً إلى رحمة الله لاثنتي عشرة ليلة خلتْ من شعبان من سنة ست وثلاثين  و أربع مائة و ألف لهجرة صاحب الرسالة عليه و على آله الصلاة و السلام، الناصح لإخوانه في المائة الحادية والعشرين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

0 0 أصوات
Article Rating
اشترك
Notify of

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
نحب سماع رأيكم ، فأفيدونا من فضلكمx
()
x