بيان أن الفتور عن طلب الإيمان به حماقة
أَقُولُ: إنَّ فُتُورَ الإيمانِ أَيْضَاﹰ مَعَ أَنَّهُ مِنَ الحَمَاقَةِ، فَلَيْسَ يَقْتَضِي الفُتُورَ في سُلوكِ سُبُلِ السَّعَادَةِ، لولا الغَفْلَةُ !
فَإنَّ النَّاسَ في أَمْرِ الآخِرَةِ أَرْبَعُ فِرَقٍ:
١- فِرْقَةٌ اعْتَقَدَتِ الْحَشْرَ وَالنَشْرَ والْجَنَّةَ والنَارَ، كما نَطَقَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ ،وَأَفْصَحَ عَنْ وَصْفِهِ القُرْآنُ، وَأَثْبَتُوا اللَذَّاتِ الحِسِّيَّةَ التي تَرْجِعُ إلى الْمَنْكُوحِ والمَطْعُومِ والمَشْمُومِ والمَلْمُوسِ والمَلْبُوسِ والمَنْظُورِ إليْهِ، واعْتَرَفُوا بأنَّهُ يُضَافُ إلى ذَلِكَ أَنْواعٌ مِنَ السُّرُورِ، وأَصْنَافٌ مِنَ اللَذَّاتِ التي لا يُحِيْطُ بها وَصْفُ الواصِفِينَ، فهيَ مما “لا عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ”؛ وأَنَّ ذلك يجْري أَبَدَاً بلا انْقِطَاعٍ، وأنَّهُ لا يُنَالُ إلا بالْعِلْمِ والعَمَلِ. وهؤلاء هُمُ المُسْلِمُونَ كافَّةً، بَلِ المُتَّبِعُونَ للأنْبِياءِ عَلَى الأَكْثَرِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى.
٢- وفِرْقَةٌ ثَانِيَةٌ، وهُمْ بَعْضُ الإلَهِيِّيْنَ الإسْلامِيِّيْنَ من الفَلاسِفَةِ، اعْتَرَفُوا بِنَوْعٍ مِنَ الْلَذَّةِ لا تَخْطُرُ على قَلْبِ بَشَرٍ كَيْفِيَّتُهَا، وسَمَّوْهَا لَذَّةً عَقْلِيَّةً. وأمَّا الحِسِّيَّاتُ فَأَنْكَرُوا وُجُودَها مِنْ خَارِجٍ((من خارج : أي في العالم الخارجي الواقعي)).
ولكِنْ أَثْبَتُوهَا على طَرِيقِ التَخَيُّلِ في حَالَةِ النَّوْمِ. ولَكَنَّ النَوْمَ يَتَكَدَّرُ بِالتَّنَبُّهِ، وذَلكَ لا تَكَدُّرَ لَهُ بَلْ هُوَ على التَأْبِيْدِ. وزَعَمُوا أنَّ ذلكَ يَثْبُتُ لِطَائِفَةٍ مِنَ المَشْغُوفِيْنَ بالمَحْسُوسَاتِ، والذيْنَ التِفَاتُ نُفُوسِهِمْ مَقْصُورٌ عَلَيْها ،ولا يَسْمُوْنَ((أي لا يرتقي فهمهم و تفكيرهم )) إلى الْلَذَّاتِ العقلية. وهذا لا يُفْضِي إلى أمْرٍ يُوجِبُ فُتُورَاﹰ في الطَلَبِ، فإن الالْتِذَاذَ إنما يَقَعُ بما يحْصُلُ في نَفْسِ الإنسانِ مِنَ التَّأَثُّرِ بالمَلْمُوسِ والمنظور والمطعوم وغيره. والشيءُ الخارجُ سَبَبٌ في حُصولِ الأَثَرِ، وليْسَتِ اللَذَّةُ من الأثَرِ الخارِجِ بل من الأثر الحاصِلِ عند حُضورِ الخارجِ. فإذا أَمْكَنَ حُصولِ الأَثَرِ في النفْسِ دون الشيءِ الخارِجِ، كما في حالة النومِ، فلا أَرَبَ في الشَيءِ الخارجِ.
٣- وفرقةٌ ثالثة ذهبوا إلى إنكار اللذةِ الحسيةِ جُمْلَةً، بِطَريقِ الحقيقةِ والخيالِ، وزعموا أن التَخَيُّلَ لا يَحْصُلُ إلا بآلاتٍ جِسْمَانِيَّةٍ ،والموتُ يقْطَعُ العلاقةَ بين النفس والبَدَنِ، الذي هو آلتُهُ في التخيل وسائر الاحساسات، ولا يعودُ قَطُّ إلى تدبير البدن بعد أن اْطَّرَحَهُ((أي هَجَرَه))، فلا يبقى له إلا آلامٌ ولذاتٌ ليست حسيةً ولكنها أعظمُ من الحسيةِ. فإن الإنسانَ في هذا العالمِ أيضاﹰ ميْلُهُ إلى اللذاتِ العقلية، ونَفْرَتُهُ عَنْ الآلامِ العَقْلِيَّةِ أَشَدُّ، ولذلك يكرهونَ في الطلبِ إراقةَ ماء الوجهِ، ويؤثرون الاحترازَ عن الافْتِضَاحِ، والاستتارَ في قضاء شهوة الفرجِ، ومقاساةَ الآلامِ والمشقاتِ. بل قد يؤثر الإنسان ترك الطعامِ يوماﹰ أو يومين، ليتوصلَ به إلى لذة الغلبة في الشطرنج ،مع حِسِّيَّتِهِ((أي حسية الجوع))، وَلَذَّةُ الغَلَبَةِ عَقْلِيَّةٌ. وقد يهجم على عدد كبيرٍ من المقاتلين لِيُقْتَلَ ويعتاضُ عنه ما يُقَدِّرُهُ في نفسه من لذة الحَمْدِ والوصْفِ بالشجاعةِ.
وزعموا أن الحسياتِ، بالإضافةِ((بالإضافة : أي بالنسبة إلى)) إلى اللذاتِ الكائنةِ في الدار الآخرة في غاية القُصورِ. وتكادُ تكونُ نسْبَتُها كنسبَةِ إدْراكِ رائحةِ المطعومِ اللذيذِ إلى ذوقِهِ ونسبةِ النظر في وجْهِ المعشوقِ إلى مضاجعتِهِ ومجامعَتِهِ، بل أبعدُ منه نسبةً. وزعموا أن ذلك لمَّا بَعُدَ عن فَهْمِ الجماهيرِ مُثِّلَتْ لهم تلكَ اللذاتُ بما عرفوها من الحسياتِ، كما أن الصَبِيَّ يشْتَغِلُ بالتَعَلُّمِ ليَنَالَ به القَضَاءَ أو الوِزَارَةَ، وهو لا يُدْرِكُ في الصِّبَا لذاتِهِما ،فَيُوْعَدُ بأمورٍ يَلْتَذُّ بها كثيراﹰ كَصَوْلَجَانٍ يَلْعَبُ بِهِ، أو عُصْفُورٍ يَعْبَثُ به وأمثالِهِ. وأينَ لذةُ اللَّعِبِ بالعُصفور من لَذَّةِ المُلْكِ والوزارةِ؟ ولكنْ لمَّا قَصُرَ فَهْمُهُ عن دَرْكِ الأعلى مُثِّلَ بالأَخَسِّ، و رُغِّبَ فيه تَلَطُّفَاﹰ باسْتِدْرَاجِه إلى ما فيه سَعَادَتُهُ. وهذا أيضاﹰ إذا صَحَّ، فلا يُوجِبُ فتوراﹰ في الطَّلَبِ، بل يوجِبُ زيادةَ الجِدِّ. وإلى هذا ذَهَبَتِ الصُّوفِيَّةُ والإلهيِّونَ من الفلاسِفَةِ من عِنْدِ آخِرِهِمْ، حتَّى أن مَشَايِخَ الصوفِيَّةِ صَرَّحُوا ولم يَتَحَاشَوْا ،وقالوا: من يَعْبُدُ اﷲَ لِطَلَبِ الجَنَّةِ أو للْحَذَرِ من النار فهو لَئِيْمٌ. وإنما مَطْلَبُ القاصِدين إلى اﷲِ أمْرٌ أشْرَفُ من هذا. ومَنْ رأى مَشَايِخَهُمْ وبَحَثَ عن مُعْتَقَدَاتِهِمْ وتَصَفَّحَ كُتُبَ المُصَنِّفِيْنَ منهم، فَهِمَ هذا الاعتقادَ من مجاري أحْوالِهمْ على القَطْعِ((اليقين)).
٤- وفِرْقَةٌ رابعةٌ وهم جماهيرُ من الحمْقَى، لا يُعْرَفُونَ بأسْمائهم ولا يُعَدُّونَ في زُمْرَةِ النُّظَّارِ، ذهبوا إلى أنَّ المَوْتَ عَدَمٌ مَحْضٌ، وأَنَّ الطاعَةَ والمَعْصِيَةَ لا عَاقِبَةَ لهما، ويَرْجِعُ الإنْسَانُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلى العَدَمِ، كما كان قَبْلَ وُجودِهِ. وهؤلاءِ لا يَحِلُّ تَسْمِيَتُهُمْ فِرْقَةً، فإنَّ الفِرْقَةَ عبارةٌ عن جَمْعٍ، وليْسَ هذا مذهَبَ جَمْعٍ، ولا مَنْسُوباﹰ إلى نَاظِرٍ معروفٍ، بل هو معتقدٌ أحمقُ بَطَّالٌ غَلَبَتْ عليه شَهْوَتُهُ، واستولى عليه شيطانُهُ، فلم يقدرْ على قمعِ هواهُ، ولم تسمحْ له رُعُونَتُهُ بأنْ يَعْتَرِفَ بالعجزِ عن مقاومَة الهوى، فَيَتَعَلَّلُ لنقصانِه بأنَّ ذلك واجبٌ وأنه الحَقُّ. ثم أحَبَّ أنْ يُسَاعِدَهُ غيرُهُ، فدَعَا إلى البَطَالَةِ وما جُبِلَتْ عليه النفسُ من اتباعِ الهوى الذي هو أشدُّ حاملٍ للأحمقٍ على المسارعةٍ إلى التصديقٍ بهٍ، لا سيما وقد يحتالُ بعضُ الفَسَقَةِ بنسبِة هذا المعتقِد إلى معروفٍ بدقائقٍ العلومٍ، كأرسطوطاليسَ وأَفْلاطونَ، أو إلى فرقةٍ كالفلاسفة، ويَسْتَدْرِجُ السامِعَ بأن معرفَتَكَ لا تزيدُ على معرفتهم، وقد بحثوا زماناﹰ وما تَحَصَّلُوا على طائِلٍ. ولا يشْعُُرُ ذلك المسكينُ بتلبيسِهِ ،فَيُصَدِّقُهُ لموافَقَتِهِ طَبْعَهُ، ولا يُطَالِبُهُ بالبرهانِ في نَقْلِ المذهَبِ عَمَّنْ نَقَلَهُ. ولو أَخْبَرَهُ بِأَثَرٍ يَتَعَلَّقُ به خُسْرَانُ دِرْهَمٍ، لَكَانَ لايُصَدِّقُهُ إلا بِبُرْهَانٍ، ولو قال: إنَّ أباك أقَرَّ لفُلانٍ بِعَشْرَةِ الدراهمِ التي خَلَّفَهَا لك، ومَعَهُ بهِ سِجِلٌّ فيه خَطُّ((أي كتابة)) الشهودِ، لقالَ: ما الحُجَّةُ فيه وأينَ الشاهِدُ الحَيُّ الذي يَشْهَدُ به؟ وأيُّ خَبَرٍ في السِجِلِّ المكتوبِ، وفي نقِل الخطوطِ؟ ثُمَّ يصدِّقُهُ في نقل مذهَبِ من سَمَّاهُ من غير شاهدينِ يشهدان على سماعه ،ومن غيرِ عَرْضِ خطﹼ ذلك المذكور، ومن غيرِ عرضِ تصنيفٍ من تصانيفه، ولو بخطِّ غيرِهِ. ثم لو سَمِعَ ذلك المذكورَ بِأُذُنِهِ يُصَرِّحُ بذلك، لكانَ ينْبغي أن يتوقَفَّ في القُبولِ زاعماﹰ أنه لا بُرْهَانَ عليه. وإنْ كانَ أَخَذَهُ تقليداﹰ، فَتَقْلِيدُ الأنبياءِ والأولياءِ والعلماءِ، بل تقليدُ الجماهيرِ والدهماءِ منَ الخلقِ أولى من تقليدِ واحدٍ ليس مَعْصوماﹰ من الخَطَأ.