ميزان العمل-٤

ميزان العمل-٤

بيان أن طريق السعادة العلم والعمل

فإنْ قُلْتَ:

قَدِ اتَّضَحَ لي أنَّ سُلوكَ سَبيلِ السَّعَادَةِ حُزْمُ العُقَلاءِ، والتَهَاوُنَ بِها غَفْلَةُ الجُهَّالِ، ولكنْ كيفَ يَسْلُكُ الطريقَ مَنْ لا يَعْرِفُهُ؟  وبماذا أَعْلَمُ بأنَّ العِلْمَ والعَمَلَ هو الطريقُ، حتى أَشْتَغِلَ بِهِ؟

فَلَكَ في مَعْرِفَتِهِ طِرِيقَانِ: أَحُدُهُمَا جُمْلِيٌّ، يُناسِبُ المِنْهَاجَ السابِقَ، وهو أنْ تَلْتَفِتَ إلى ما اتَّفَقَ عليهِ آراءُ الفِرَقِ الثلاثِ، وقد أجْمَعُوا على أنَّ الفَوْزَ والنَجَاةَ لا تَحْصُلُ إلا بالعِلْمِ والعَمَلِ جمَيعاﹰ، وأنهم اتَّفَقُوا على أنَّ العِلْمَ أَشْرَفُ مِنَ العَمَلِ. وكأنَّ العَمَلَ مُتَمِّمٌ لَهُ وسائِقٌ بالعِلْمِ إلى أنْ يَقَعَ مَوْقِعَهُ، ولأجْلِهِ قالَ اﷲُ تعالى:

“إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصَالِحُ يَرْفَعُهُ”

والكَلِمُ الطَيِّبُ يَرْجِعُ إلى العِلْمِ عندَ البَحْثِ، فهوَ الذي يَصْعَدُ ويَقَعُ المَوْقِعَ ،والعَمَلُ كالخادِمِ لَهُ يَرْفَعُهُ ويَحْمِلُهُ. وهذا تَنْبيهٌ على عُلُوِّ رُتْبَةِ العِلْمِ.

وَمَذْهَبُ الفِرْقَةِ الأُولَى، وهم المتمسكون بالمفهوم الأول للجماهير من ظواهر الشرع، غيرُ خَافٍ رَبْطُهُ النَجَاةَ بالعِلْمِ والعَمَلِ، وبَيَانُهُ لا يُمْكِنُ أنْ يُحْصَى.

والصوفيةُ والفَلاسِفَةُ، الذينَ آمنُوا باﷲِ واليومِ الآخِرِ على الجُمْلَةِ، وإنْ اخْتَلَفُوا في الكَيْفِيَّةِ ،كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ على أنَّ السَّعَادَةَ في العِلْمِ والعِبَادَةِ. وإنما نَظُرُهُم في تَفْصِيلِ العِلْمِ والعِمَلِ، والتَوَقُّفُ مَعَ هذا الاتِّفَاقِ حُمْقٌ!فَمَنِ اسْتَوْلَتْ عليهِ عِلَّةٌ، واتَّفَقَ كُتُبُ الأَطِبَّاءِ وأقْوَالُهُم، مَعَ اخْتِلافِ أَصْنَافِهِمْ، على أنَّ النَافِعَ لهذهِ العِلَّةِ المُبَرِّدَاتُ، فَتَوَقُّفُ المَرِيضِ فيهِ، سَفَهٌ في عَقْلِهِ، بل يَقْتَضي العَقْلُ المُبَادَرَةَ إليهِ.

نَعَمَ! رُبَّمَا يَكُونُ له طَرِيْقٌ بَعْدَ ذلكَ إلى أنْ يَتَحَقَّقَ ذَلَكَ، لاعَنْ تَقْلِيْدٍ للجَماهيرِ بلْ عَنْ تحقيقٍ لحَقَيْقَةِ العِلَّةِ ، وَوَجْهِ مُنَاسَبَةِ المُبَرِّدَاتِ لإزالتِها، فَيَنْتَهِضُ بَصِيرَاﹰ إذا نَظَرَ واسْتَقَلَّ، وَتَرَقَّى عنْ حَضِيْضِ التِقْلِيدِ والاتِّبَاعِ، إلى ذُرْوَةِ الاسْتِبْصَارِ.

فَكَذلكَ قَدِ ادَّعَى الصُّوفِيَّةُ وفِرَقٌ سِواهُم أنَّهُ يُمْكِنُ الوصولُ إلى دَرْكِ ذلكَ بالبَصِيرَةِ والتَحْقِيْقِ ، وذلكَ أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَةَ المَوْتِ ، وأَنَّهُ يَرْجِعُ إلى خُروجِ الآلَةِ عَنِ الصَّلاحِ للاسْتِعْمَالِ، لا إلى انْعِدَامِ المُسْتِعْمِلِ. 

ثُمَّ تَعْلَمَ أنَّ سَعَادَةَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَذَّتَهُ ورَاحَتَهُ ، في وصولِهِ إلى كَمَالِهِ الخاصِ بهِ؛ ثُمَّ تَعْلَمَ أنَّ الكَمَالَ الخَاصَّ بالإنْسَانِ هوَ إدْرَاكُ حقيقةِ العَقْلِيَّاتِ، على ما هي عَلِيِه، دُوْنَ المُتَوَهَّمَاتِ والحِسِّيَّاتِ التي يُشارُكُهُ الحَيَوَاناتُ فيها؛ ثم تَعْلَمَ أنَّ النَفْسَ بالذاتِ مُتَعَطِّشَةٌ إليهِ، وبالفِطْرَةِ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ، وإنَّما يَصْرِفُهَا عَنْهُ اشْتِغَالُها بِشَهَواتِ البَدَنِ وعَوَارِضِهِ، مهما اسْتَوْلَتْ عليه.

ومَهْمَا كَسَرَ الشَّهْوَةَ وقَهَرَها، وخَلَّصَ العقْلَ عَنْ رِقِّهَا واسْتِعْبادِها إياهُ ، وَأَكَبَّ بالتَفَكُّرِ والنَظَرِ عَلَى مُطَالَعَةِ مَلَكُوتِ السَمَواتِ والأرضِ، بَلْ على مُطَالَعَةِ نَفْسِهِ وما خُلِقَ فيها مِنَ العَجَائِبِ، فَقَدْ وَصَلَ إلى كَمَالِهِ الخاصِّ، وقَدْ سَعِدَ في الدنيا، إذْ لا مَعْنى للسَّعَادةِ إلا نَيْلُ النَفْسِ كَمَالَها المُمْكِنَ لها، وإنْ كانَتْ دَرَجَاتُ الكَمالِ لا تَنْحَسِرُ. ولكنْ لا يَشْعُرُ بتلكَ اللذةِ ما دامَ في العالَمِ ممنوعاﹰ بالحِسِّ والتَخَيُّلِ وعَوارِضِ النَفْسِ، كالذي عَرَضَ لِلْمَطْعَمِ الأَلَذِّ، وفي ذَوْقِهِ خَدَرٌ ، فيزولُ، فيشعرُ باللذةِ المُفْرِطَةِ.

فالموتُ مِثْلُ زَوَالِ الخَدَرِ، فقدْ سَمِعْتُ مُقَدَّمَاﹰ من مَتْبوعِي الصوفِيِّةِ يُصَرِّحُ بأنَّ السَالكَ إلى اﷲِ تَعالى يَرَى الجَنَّةَ وهو في الدُنيا، والفِرْدَوْسُ الأعْلى مَعَهُ في قلبِهِ، إنْ أَمْكَنَهُ الوصولُ إليه.

وإنما الوصولُ إليهِ بالتَجَرُّدِ عن عَلائِقِ الدنيا، والإكْبَابِ بِجُمْلَةِ هِمَّتِهِ على التَفَكُّرِ في الأُمورِ الآلهِيَّةِ، حتَّى يَنْكَشِفَ لهُ بالإلهامِ الإلهي جَلِيُّها، وذلك عندَ تصْفِيَةِ نَفْسِهِ عن هذه الكُدُورَاتِ.

والوصولُ إلى ذلكَ هو السعادةُ، والعَمَلُ هو المُعِينُ على الوصولِ إليه. فهؤلاءِ فِرْقَةٌ ادَّعُوا المعرفةَ بمناسَبَةِ العِلْمِ والعَمَلِ للسعَادَةِ، فهذا هو المَنْهَجُ الثاني في الوصولِ إلى اليقينِ، فما قَالوه سديدٌ، وهو بزعْمِهِم لايُعْرَفُ إلا بالمُجَاهَدَةِ والرِّيَاضَةِ، كما قال اﷲ تعالى:

“والذين جاهدوا فِينا لنَهدينهم سُبُلَنَا”. فعليكَ بالمجاهَدَةِ والتَجَرُّدِ للطَلَبِ، فرُبَّمَا يَنْكَشِفُ لَكَ حَقِيقَةُ الحالِ بالنَفْي أو الإثْبَاتِ. ويكفيكَ في الشرُّوعِ في العِلمِ والعَمَلِ اتفاقُ الثلاثِ عليه، إذ لم يكنْ غَرَضُكَ من السؤالِ الجِدالُ، بلْ كانَ غَرَضَكَ طَلَبُ الفَوْزِ، كالمريضِ الذي يَطْلُبُ الشِّفَاءَ دون الجِدَالِ إذْ بُغْيَتُهُ اتِّفَاقُ أَصْنَافِ الأَطِبَّاءِ فيه. 

تصفح :<< ميزان العمل-٣
0 0 أصوات
Article Rating
اشترك
Notify of

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
نحب سماع رأيكم ، فأفيدونا من فضلكمx
()
x