تمهيد لكتاب المستصفى من علم الأصول-١

تمهيد لكتاب المستصفى من علم الأصول-١

مُقَدَّمَةُ الكتاب

الحمدُ للهِ القويِّ القادرْ. الوليِّ الناصرْ. اللطيفِ القاهرْ. المنتقمِ الغافرْ. الباطنِ الظاهرْ. الأولِ الآخِرْ. الذي جعلَ العقلَ أَرْجَحَ الكُنوزِ والذخائِرْ. والعلمَ أَرْبَحَ المكاسِبِ والمتاجرْ. وأشرفَ المعالي والمفاخرْ. وأكرمَ المحامدِ والمآثرْ. وأحمَدَ المواردِ والمصادرْ. فَشَرُفَتْ بإثْباتِهِ الأقلامُ والمحابرْ. وَتَزَيَّنَتْ بِسَمَاعِهِ المحاريبُ والمنابِرْ. وَتَحَلَّتْ بِرُقُومِهِ الأوراقُ والَّدفاتِرْ. وتقدَّمَ بِشَرَفِهِ الأصاغِرُ على الأكابِرْ. واسْتَضَاءَتْ بِبَهَائِهِ الأسْرارُ والضَمَائرْ. وَتَنَوَّرَتْ بأنوارِهِ القلوبُ والبصائرْ. واسْتُحْقِرَ في ضيائه ضياءُ الشمس الباهرْ. على الفَلَكِ الدائِرْ. واسْتُصْغِرَ في نورهِ الباطنِ ما ظَهَرَ من نُورِ الأحْداقِ والنواظِرْ. حتى تَغَلْغَلَ بضيائِهِ في أعْماقِ المُغْمَضَاتِ جنودِ الخواطِرْ. وإنْ كَلَّتْ عنها النواظِرْ. وكَثُفَتْ عليها الحُجُبُ والسواترْ.

والصلاةُ على محمدٍ رسولِهِ ذي العُنْصُرِ الطاهِرْ. والمجدِ المُتَظاهِرْ. والشرفِ المتناصرْ. والكَرَمِ المتقاطرْ. المبعوثِ بشيراً للمؤمنينَ ونذيراً للكافرينَ وناسخاً بِشَرْعِهِ كلَّ شرْعٍ غابرْ. ودينٍ داثِرْ. المُؤَيَّدِ بالقرآنِ المجيدِ الذي لا يَمَلُّه سامِعٌ ولا آثِرْ. ولا يُدْرِكُ كُنْهَ جزالتِهِ ناظمٌ ولا ناثرْ. ولا يحيطُ بعجائِبِهِ وصْفُ واصِفٍ ولا ذِكْرُ ذاكرْ. وكلُّ بليغٍ دونَ ذَوْقِ فَهْمِ جَلِيَّاتِ أسْرارِهِ قاصرْ. وعلى آله وأصحابِهِ وسَلَّمَ كثيراً ،كثرةً يَنْقَطِعُ دونها عُمُرُ العادِّ الحاصِرْ.

أما بعد:

فقدْ تناطَقَ قاضي العقلِ وهو الحاكِمُ الذي لا يُعْزَلُ ولايُبَدَّلُ، وشاهدُ الشرعِ وهو الشاهدُ المُزَكَّى المُعَدَّلُ، بأنَّ الدنيا دارُ غُرور لا دارُ سرورٍ ومطيةُ عملٍ لا مطيةُ كسلٍ، ومنزلُ عُبورٍ لا مُتَنَزَّهُ حُبورٍ ومحلُّ تجارةٍ لا مَسْكَنُ عِمارَةٍ، ومَتْجَرٌ بضاعَتُها الطَّاعةُ، ورِبْحُها الفوزُ يومَ تقومُ الساعَةُ. والطاعةُ طاعتانِ: عَمَلٌ وعِلْمٌ. والعلمُ أَنْجَحُهَا وأَرْبَحُهَا، فإنه أيضاً مِنَ العَمَلِ ولكنَّهُ عَمَلُ القلبِ الذي هُوَ أَعَزُّ الأعْضاءِ وسَعْيُ العَقْلِ الذي هو أشرفُ الأشياءِ لأنَّهُ مَرْكَبُ الديانَةِ وحَامِلُ الأمَانَةِ، إذْ عُرِضَتْ على الأرضِ والجبالِ والسماءِ فأَشْفَقْنَ مِنْ حَمْلِها وأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها غايَةَ الإبَاءِ.

ثُمَّ العلومُ ثلاثةٌ:

١- عقليٌ مَحْضٌ: لا يَحُثُّ الشَرْعُ عليهِ ولا يَنْدُبُ إليهِ1،كالحِسابِ والهَنْدَسَةِ والنجومِ وأمثالِهِ من العلومِ، فهيَ بَيْنَ ظُنونٍ كاذبةٍ لائقةٍ -وإنَّ بعضَ الظنِّ إثمٌ- وبينَ علومٍ صادِقَةٍ لا مَنْفَعَةَ لها((المقصود هو المنفعة الأخروية وهذا الظن الغالب ، و إلا ، فكل ما اتَّصلَ نفْعُهُ بالآخرة دَخَلَ تحت المندوب و المطلوب))؛ ونعوذُ باللِه من علمٍ لايَنْفَعُ. وليستِ المَنْفَعَةُ في الشهواتِ الحاضِرَةِ والنِّعَمِ الفَاخرةِ، فإنَّها فَانيةٌ داثِرَةٌ، بلِ النفْعُ ثوابُ دارِ الآخِرَةِ.

٢- ونقليٌ مَحْضٌ: كالأحاديثِ والتفاسيرِ ، والخَطْبُ في أَمْثَالها يَسِيرٌ، إذْ يَسْتَوي في الاسْتِقْلالِ بها الصَّغيرُ والكبيرُ، لأنَّ قوةَ الحفظِ كافيةٌ في النَقْلِ، وليْسَ فيها مجالٌ للعقلِ.

٣- وأشرفُ العلومِ ما ازْدَوَجَ فيهِ العَقْلُ والسَّمْعُ، واصْطُحِبَ فيهِ الرأيُ والشرعُ. وعلمُ الفقهِ وأصولِهِ من هذا القَبيلِ، فإنَّه يَأْخُذُ من صَفْوِ الشرعِ والعقلِ سواءَ السبيلِ،  فلا هو تَصَرَّفَ بِمَحْضِ العقولِ، بحيثُ لا يتلقاهُ الشرعُ بالقبولِ، ولا هو مبنيٌّ على محضِ التقليدِ ، الذي لا يشهدُ لَهُ العقلُ بالتأييدِ والتسديدِ.

ولأجْلِ شَرَفِ علمِ الفقهِ وسَبَبِهِ ، وَفَّرَ اللهُ دواعي الخَلْقِ على طَلَبِهِ، وكانَ العلماءُ بِهِ أَرْفَعَ العلماءِ مَكاناً، وأَجَلَّهُمْ شَأْنَاً، وأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعاً وأعواناً. فتقاضاني -في عنفوانِ شبابِي- اخْتصاصُ هذا العلمِ بفوائدِ الدين والدنيا وثوابِ الآخرة والأولى، أَنْ أَصْرِفَ إليه مِنْ مُهْلَةِ العُمُرِ  صَدْرَاً وأنْ أَخُصَّ به مِنْ مُتَنَفَّسِ الحياةِ قَدْراً، فَصَنَّفْتُ كُتُبَاً كثيرةً في فُروعِ الفقهِ وأصولِهِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ بَعْدَهُ على عِلْمِ طريقِ الآخِرَةِ، ومعرفةِ أسرارِ الدينِ الباطنةِ، فَصَنَّفْتُ فيه كُتُبَاً بسيطةً، كَكِتابِ إحياءِ علومِ الدينِ ،ووجيزهِ ككتابِ جواهرِ القرآنِ ،وَوَسيطِهِ ككتابِ كيمياءِ السعادةِ، ثمَّ ساقَنِي قَدَرُ اللهِ تعالى إلى مُعَاوَدَةِ التَدْرِيسِ والإفادَةِ، فاقْتَرَحَ علَّي طائفةٌ مِنْ مُحَصِّلي عِلْمِ الفقْهِ تصنيفاً في أصولِ الفقهِ، أَصْرِفُ العِنايةَ فيه إلى التَلْفِيقِ بينَ الترتيبِ والتحقيقِ، وإلى التـَوَسُّطِ بينَ الإخْلالِ والإمْلالِ على وَجْهٍ يَقَعُ في الفَهْمِ دونَ كتابِ تَهْذيبِ الأصولِ، لميلِهِ إلى الاسْتِقْصاءِ والاسْتِكْثَار ، وفوقَ كتابِ المنخولِ لميلهِ إلى الإيجازِ والاختصارِ؛ فَأَجَبْتُهُم إلى ذلكَ مُسْتَعيناً باللهِ وجمعتُ فيه بينَ الترتيبِ والتحقيقِ لفهم ِالمعاني فلا مَنْدوحةَ لأحدهما على الثاني فصنفتُهُ وأتيتُ فيه بترتيبٍ لطيفٍ عجيبٍ يُطْلِعُ الناظرَ في أوَّلِ وَهْلةٍ على جميعِ مقاصِدِ هذا العلمِ، ويُفيدُهُ الاحتواءَ على جميعِ مسارحِ النَظَرِفيه، فَكُلُّ عِلْمٍ لا يسْتَوْلي الطالبُ في ابْتداءِ نَظَرِهِ على مجامِعِهِ ولا مَبَانِيهِ، فلا مَطْمَعَ لهُ في الظَّفَرِ بأسرارِهِ ومباغِيه. وقد سَمَّيْتُهُ كتابَ “المستصفى من علم الأصول” واللهُ تعالى هوَ المسؤولُ لينعمَ بالتوفيقِ ويهدي إلى سواء الطريقِ وهو بإجابةِ السائلينَ حقيقٌ.

صدر الكتاب

اعلمْ أنَّ هذا العلمَ الملقبَّ بأصولِ الفِقهِ قد رتَّبْناهُ وجمعناهُ في هذا الكتابِ، وبَنَيْنَاهُ على مُقَدَّمَةٍ وأرْبَعَةِ  أقْطابٍ. المُقَدَّمَةُ لها كالتَوْطِئَةِ والتمهيدِ، والأقطابُ هي المُشْتَمِلَةُ على لُبَابِ المقْصودِ.

ولْنَذْكُرْ في صَدْرِ الكتابِ معنى أصولِ الفقهِ وحَدَّهُ وحقيقتَهُ أولاً، ثم مرتبتَهُ ونسبتَهُ إلى العلومِ ثانياً، ثم كيفيةَ إنشعابِهِ إلى هذه المقدمةِ والأقطابِ الأربعةِ ثالثاً، ثم كيفيةِ اندراجِ جميعِ أقسامِهِ وتفاصيلِهِ تحتَ الأقطابِ الأربعةِ رابعاً، ثم وَجْهَ تَعَلُّقِهِ بهذه المقدمةِ خامساً.

بيانُ حد أصولِ الفقهِ:

اعلمْ أنَّكَ لا تفهمُ معنى أصولِ الفقهِ ما لمْ تَعْرِفْ أولاً مَعْنَى الفِقْهِ. والفقهُ عبارةٌ عن العلمِ والفَهْمِ في أصلِ الوَضْعِ. يقالُ: فلانٌ يفقه الخيرَ والشرَّ، أي يعلمُه ويفهمُه، ولكنْ صارَ بِعُرْفِ العلماءِ عبارةً عن العلمِ بالأحكامِ الشرعيةِ الثابتةِ لأفعالِ المكلفينَ خاصَّةً ، حتى لا يُطْلَقُ بحكم العادةِ اسمُ الفقيهِ على متكلمٍ وفلسفيٍ ونحويٍ ومحدثٍ ومفسرٍ، بل يختصُّ بالعلماءِ بالأحكامِ الشرعيةِ الثابتةِ للأفعالِ الإنسانيةِ، كالوجوبِ والحَظْرِ، والإباحَةِ والندبِ والكراهةِ، وكَوْنِ العقدِ صحيحاً وفاسداً وباطلاً، وكوْنِ العبادَةِ قضاءً وأداءً، وأمثالِهِ. ولا يخْفَى عليك أنَّ للأفعالِ أحكاماً عقْلِيَّةً، (أي مُدْرَكَةً بالعقْلِ)ككونِها أعراضاً((العَرَضُ هو ما قام بالجوهر أو المحل ولم يقم بنفسه ، كسائر الصفات الحسية من ألوان و طعوم و روائح))، وقائمةً بالمحلِّ، ومخالِفَةً للجَوْهَرِ وكَوْنِها أكواناً ،حركةً وسكوناً، وأمثالَها، والعارفُ بذلك يُسَمَّى متكلماً لا فقيهاً. وأما أحْكامُها من حيثُ إنها واجبةٌ ومحظورةٌ ومباحةٌ ومكروهةٌ ومندوبٌ إليها، فإنَّما يَتَوَلَّى الفقيهُ بيانَها. فإذا فهمْتَ هذا فافهمْ أنَّ أصولَ الفقهِ عبارةٌ عنْ أَدَلَّةِ هذهِ الأحكامِ، وعنْ مَعْرِفَةِ وجوهِ دلالَتِها على الأحكامِ ،من حيثُ الجملةِ لا من حيثُ التفصيلِ. فإنَّ علمَ الخلافِ من الفقْه أيضاً مُشْتَمِلٌ على أدلةِ الأحكامِ ووجوِه دلالتِها، ولكنْ من حيثُ التفصيلِ، كدلالةِ حديثٍ خاصٍّ في مسألةِ النكاحِ بلا وليٍّ على الخُصوصِ((أي تخصيص الحكم العام بأنْ لا نكاح بغير ولي))، ودلالةِ آيةٍ خاصَّةٍ في مسألةِ متروكِ التسميةِ على الخصوصِ. وأما الأصول فلا يتعرض فيها لإحدى المسائل ولا على طريق ضرب المثال بل يتعرض فيها لأصل الكتاب والسنة والإجماع ولشرائط صحتها وثوبتها ثم لوجوه دلالتها الجميلة إما من حيث صيغتها أو مفهوم لفظها أو مجرى لفظها أو معقول لفظها وهو القياس من غير أن يتعرض فيها لمسألة خاصة فبهذا تفارق أصول الفقه فروعه.

وقد عرفت من هذا أن أدلة الأحكام الكتاب والسنة والإجماع فالعلم بطرق ثبوت هذه الأصول الثلاثة وشروط صحتها ووجوه دلالتها على الأحكام هو العلم الذي يعبر عنه بأصول الفقه.

بيان مرتبة هذا العلم ونسبته إلى العلوم:

اعلم أن العلوم تنقسم إلى عقلية؛ كالطب والحساب والهندسة، وليس ذلك من غرضنا، وإلى دينية؛ كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الباطن أعني علمَ القلب وتطهيرِه عن الأخلاق الذميمة. وكلُّ واحد من العقلية والدينية ينقسم إلى :

كلية وجزئية. فالعلمُ الكلي من العلوم الدينية هو الكلام، وسائر العلوم من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علومٌ جزئية، لأن المفسِّرَ لا ينظر إلا في معنى الكتابِ خاصةً، والمحدِّثَ لا ينظرُ إلا في طريق ثبوت الحديثِ خاصةً، والفقيهَ لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة، والأصوليَّ لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصة.

والمتكلمُ هو الذي ينظرُ في أَعَمِّ الأشياءِ وهو الموجود؛ فيقسِمُ الموجودَ أولا إلى قديمٍ وحادثٍ، ثم يقسِمُ المُحْدَثَ إلى جَوْهَرٍ وعَرَضٍ، ثم يقسِمُ العَرَضَ إلى:

  • ما تُشْتَرَطُ فيهِ الحياةُ من العلمِ والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ، وإلى:
  • ما يَسْتَغْنِى عنها، كاللونِ والريحِ والطَعْمِ.

ويَقْسِمُ الجَوْهَرَ إلى الحيوانِ والنباتِ والجمادِ، ويُبَيِّنُ أنَّ اخْتِلافَها بالأنواع أو بالأعراض. ثم ينظرُ في القديمِ، فيبينُ أنه لا يَتَكَثَّرُ ولا يَنْقَسِمُ انقسامَ الحوادثِ، بل لا بدَّ أنْ يكونَ واحداً ، وأنْ يَكونَ متميزاً عن الحوادثِ بأوصافٍ تَجِبُ له، وبأمورٍ تستحيل عليه، وأحكام تجوز في حقه ولا تجب ولا تستحيل. ويفرِّقُ بين الجائز والواجب والمحال في حقه ثم يبين أن أصل الفعل جائز عليه، وأن العالمَ فعلُهُ الجائزُ، وأنه لجوازِه افْتَقَرَ إلى مُحْدِثٍ وأن بعثةَ الرسل من أفعاله الجائزة وأنه قادر عليه وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات، وأن هذا الجائز واقع. عند هذا ينقطع كلام المتكلم وينتهي تصرفُ العقلِ، بل العقل يدل على صدق النبي ثم يعزل نفسَهُ ويعترفُ بأنه يتلقى من النبي بالقبول، ما يقول في الله واليوم الآخر مما لا يستقلُ العقل بدركه، ولا يقضي أيضا باستحالته، فقد يرد الشرع بما يقصر العقل عن الاستقلال بإدراكه إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببا للسعادة في الآخرة ،وكون المعاصي سببا للشقاوة لكنه لا يقضي باستحالته أيضا.

ويقضي بوجوب صدق من دلت المعجزة على صدقه فإذا أخبر عنه صدق العقل به بهذه الطريق. فهذا ما يحويه علم الكلام. فقد عرفت من هذا أنه يبتدى نظره في أعم الأشياء أولاً وهو الموجود، ثم ينزل بالتدريج إلى التفصيلِ الذي ذكرناه فيثبت فيه مبادىءَ سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول، فيأخذُ المفسر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحدا خاصا وهو الكتاب فينظر في تفسيره ،ويأخذ المحدث واحدا خاصا وهو السنة، فينظر في طرق ثبوتها، والفقيه يأخذ واحدا خاصا وهو فعل المكلف، فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الوجوبُ والحظرُ والإباحةُ، ويأخذ الأصولي واحداً خاصا وهو قول الرسول الذي دل المتكلم على صدقهِ فينظرُ في وجه دلالتهِ على الأحكامِ، إما بملفوظهِ أو بمفهومهِ أو بمعقول معناه ومستنبطه.

ولا يجاوز نظر الأصولي قولَ الرسول عليه السلام وفعله فإن الكتاب إنما يسمعه من قوله، والإجماع يثبت بقوله، والأدلة هي الكتابُ والسنة والإجماع فقط. وقول الرسول إنما يثبت صدقه وكونه حجة في علم الكلام، فإذاً؛ الكلامُ هو المتكفل بإثبات مبادىء العلوم الدينية كلها، فهي جزئيةٌ بالإضافة إلى الكلامِ، فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات.

فإن قيل: فليكن من شرط الأصولي والفقيه والمفسر والمحدث أن يكون قد حصل علم الكلام لأنه قبل الفراغ من الكلي الأعلى كيف يمكنه النزول إلى الجزئي الأسفل؟

قلنا ليس ذلك شرطاً في كونه أصولياً وفقيهاً ومفسراً ومحدثاً، وإن كان ذلك شرطاً في كونه عالماً مطلقاً مليئاً بالعلوم الدينية. وذلك أنه ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مبادىءُ تؤخَذُ مُسَلَّمَةً بالتقليدِ في ذلك العلم، ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر. فالفقيه ينظر في نسبة فعل المكلف إلى خطاب الشرع في أمره ونهيه، وليس عليه إقامة البرهان على إثبات الأفعال الاختياريات للمكلفينَ، فقد أنكرت الجبرية فعل الإنسان وأنكرت طائفة وجود الأعراضِ؛ والفعل عَرَضٌ؛ ولا على الفقيه إقامةُ البرهان على ثبوت خطاب الشرعِ وأنَّ للهِ تعالى كلاما قائما بنفسه هو أمر ونهي، ولكنْ يأخذ ثبوت الخطاب من الله تعالى، وثبوت الفعل من المكلف، على سبيل التقليد، وينظر في نسبة الفعل إلى الخطاب فيكون قد قام بمنتهى علمه.

وكذلك الأصولي يأخذ بالتقليد من المتكلم أن قول الرسول حجة ودليل واجب الصدق ثم ينظر في وجوده دلالته وشروط صحته. فكل عالم بعلم من العلوم الجزئية فإنه مقلد لا محالة في مبادىء علمه إلى أن يترقى إلى العلم الأعلى فيكون قد جاوز علمه إلى علم آخر.

بيان كيفية دورانه على الأقطاب الأربعة:

اعلم أنك إذا فهمتَ أنَّ نَظَرَ الأصولي في وجوه دَلالةِ الأدلَّةِ السمعيةِ على الأحكامِ الشرعيةِ، لم يَخْفَ عليكَ أنَّ المقصودَ كيفيةُ اقتباسِ الأحكامِ من الأدلة. فَوَجَبَ النَظَرُ في الأحكام ثم في الأدلة وأقسامها، ثم في كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، ثم في صفات المُقْتَبِسِ الذي له أنْ يَقْتَبِسَ الأحكامَ، فإنَّ الأحكامَ ثمراتٌ، وكلُّ ثمرةٍ لها: صفةٌ وحقيقةٌ في نفسها، ولها مُثْمِرٌ، ومُسْتَثْمِرٌ، وطريقٌ في الاسْتِثْمَارِ.

فالثمرة هي الأحكامُ أعني الوجوبَ والحَظْرَ والنَدْبَ والكَرَاهَةَ والإبَاحَةَ والحُسْنَ والقُبْحَ والقَضاءَ والأدَاءَ والصِحَّةَ والفَسَادَ وغيرَها.

والمثمر هي الأدلةُ وهي ثلاثةٌ: الكتابُ والسُنَّةُ والإجْماعُ فقط.

وطرق الاستثمار هي وجوهُ دلالةِ الأدِلَّةِ وهي أربعةٌ؛ إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها ؛ أو بفحواها ومفهومها ؛أو باقتضائها وضرورتها؛ أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها.

والمستثمر هو المجتهد ولا بد من معرفة صفاته وشروطه وأحكامه.

فإذاً، جملة الأصول تدور على أربعة أقطابٍ:

القطب الأول: في الأحكام. والبداءةُ بها أَوْلى لأنها الثمرةُ المطلوبةُ.

القطب الثاني: في الأدلة. وهي الكتابُ والسُنَّةُ والإجماع، وبها التثنيةُ، إذْ بعْدَ الفراغِ من معرفةِ الثمرةِ، لا أَهَمَّ من معرفة المُثْمِرِ.

القطب الثالث: في طريق الاستثمار. وهو وجوهِ دلالةِ الأدلةِ وهي أربعة:

دَلالةٌ بالمنظوم، ودَلالةٌ بالمفهوم، ودلالة بالضرورةِ والاقْتِضَاءِ، ودلالة بالمعنى المعقولِ.

القطب الرابع: في المستثمر وهو المجتهد الذي يَحْكُمُ بِظَنِّهِ، ويقابِلُهُ المُقَلِّدُ الذي يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ((أي اتِّبَاعُ المجتهدِ)) فيجبُ ذِكْرُ شروطِ المُقَلِّدِ والمُجْتَهِدِ وصفاتِهِمَا.

تصفح :تمهيد لكتاب المستصفى-٤ >>
  1. ولا يحرّمه ولا يُحاسب عليه أيضاً []
0 0 أصوات
Article Rating
اشترك
Notify of

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

3 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
bshrart
bshrart
8 years ago

1ـ هل الهامش الاول و الثاني هو رأيك الشخصي الذي تفترق به بعض الشئ عن الكاتب أم هو ظنك بما يعتقده هو ولم يستفض به.
2ـ ما الفرق بين الأصولي و الفقيه?
3ـ علمنا فيما أذكر أن الأحكام تستخرج أدلتها من القرآن و السنة و الإجماع و القياس, فهل أغفل الغزالي ذلك اجتهادا منه بأنه فرع من المثمرات الثلاثة خاصة انه كرر كلمة فقط في اكثر من موضع?
4ـ هل يعتبر الغزالي نفسه عالماً كلياً باعتباره متكلم قبل كل شئ و ماذا نسمي الذي يشتغل بالعلوم القلبية و تزكية النفس ( ممكن ولي ?)

شكراً جزيلاً على الجهد المبذول و عفواً على الإطالة.

3
0
نحب سماع رأيكم ، فأفيدونا من فضلكمx
()
x