تمهيد لكتاب المستصفى-٣

تمهيد لكتاب المستصفى-٣

مقدمة الكتاب

نذكرُ في هذه المقدمة مداركَ العقولِ، وانحصارَها في الحدِّ والبرهانِ، ونذكر شرطَ الحدِّ الحقيقي، وشرطَ البرهانِ الحقيقي ،وأقسامَهُما، على منهاجٍ أَوْجَزَ مما ذكرناه في كتابِ مَحَكِّ النظرِ، وكتابِ معيارِ العلمِ.

وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيطُ بها فلا ثِقَةَ له بعلومِهِ أصلاً، فمن شاءَ أنْ لا يكتبَ هذه المقدمةَ، فَلْيَبْدَأْ بالكتابِ من القطب الأولِ، فإنَّ ذلكَ هُوَ أَوَّلُ أُصولِ الفِقْهِ، وحاجةُ جميع العلومِ النظريةِ إلى هذه المقدمة، لحاجة أصول الفقه لها.

بيان حصر مدارك العلوم النظرية في الحد والبرهان:

اعلم أن إدراكَ الأمورِ على ضَرْبَيْنِ:

الأول: إدراكُ الذَوَاتِ المُفْرَدَةِ، كَعِلْمِكَ بِمَعْنَى الجِسْمِ والحركةِ والعالمِ والحادثِ والقديمِ وسائرِ ما يُدَلُّ عليهِ بالأسامِي المُفْرَدَةِ.

الثاني: إدراكُ نِسْبَةِ هذهِ المُفْرَدَاتِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ، بالنفي أو الإثبات، وهوَ أنْ تَعْلَمَ أَوَّلاً معنى لَفْظِ “العَالَمِ”، وهوَ أَمْرٌ مُفْرَدٌ، وَمَعْنى لَفْظِ “الحادِث” ومعْنَى لَفْظِ “القَديمِ” وهما أَيْضَاً أَمْرَانِ مُفْرَدَانِ ثُمَّ تَنْسِبُ مُفرداً إلى مفردٍ بالنَفْيِ أو الإِثْبَاتِ، كما تَنْسِبُ القِدَمَ إلى العالَمِ بالنَفْيِ فتقول: “ليس العالم قديماً”، وتَنْسِبُ الحُدوثَ إليهِ بالإثباتِ فتقول: “العالم حادث”.

والضربُ الأخيرُ هو الذي يَتَطَرَّقُ إليهِ التَصْدِيقُ والتَكْذِيبُ. وأما الأولُ فَيَسْتَحِيلُ فيه التَصْديقُ والتَكْذيبُ، إذْ لا يَتَطَرَّقُ التَصْديقُ إلَّا إلى خَبَرٍ، وَأَقَلُّ ما يَتَرَكَّبُ منهٌ جُزآنِ مُفَرَدَانِ وَصْفٌ وَمَوْصُوفٌ. فإذا نُسِبَ الوصْفُ إلى الموصوفِ بنفيٍ أو إثباتٍ، صَدَقَ أوْ كَذَبَ.

فأما قَوْلُ القَائِلِ: “حادثٌ” أو “جسمٌ” أو “قديمٌ” فَأَفْرادٌ ليسَ فيها صِدْقٌ ولاكَذِبٌ، ولا بَأْسَ أنْ يُصْطَلَحَ على التَعْبِيرِ عنْ هَذَيْنِ الضَرْبَيْنِ بعبارَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فِإنَّ حَقَّ الأمورِ المختلفةِ أنْ تَخْتَلِفَ ألفاظُها الدَالَّةُ عليها، إذْ الألفاظُ مِثْلُ المَعَاني، فَحَقُّها أنْ تُحاذَى بها المعاني.

وقد سَمَّى المَنْطِقِيُّونَ مَعْرِفَةَ المفرداتِ تَصَوُّرَاً وَمَعْرِفَةَ النِسْبَةِ الخَبَرِيَّةِ بَيْنَهُما تَصْدِيقاً فقالوا:

العلم إما تصور وإما تصديق.

وَسَمَّى بَعْضُ عُلَمَائِنَا الأولَ “مَعْرِفَةً” والثانيَ “عِلْمَاً”، تَأَسِّيَاً بِقَولِ النُحاةِ في قولهم:

المعرفةُ تَتَعَدَّى إلى مَفْعولٍ واحدٍ إذْ تَقُولُ: “عرفتُ زيداً”.

والظنُّ يَتَعَدَّى إلى مَفْعولَيْنِ إذْ تَقولُ: “ظَنَنْتُ زَيْدَاً عالماً”.

ولا تقول: “ظننت زيداً” ولا “ظننت عالماً” !! والعلمُ من بابِ الظَنِّ، فتقولُ: “عَلِمْتُ زيداً عَدْلاً”. والعادَةُ في هذه الاصْطِلاحَاتِ مُخْتَلِفَةٌ. وإذا فَهِمْتَ افْتِرَاقَ الضَرْبَيْنِ فلا مُشَاحَّةَ في الألقابِ. فنقول الآن:

إنَّ الإدراكاتِ صارتْ محصورةً في المعرفةِ والعلمِ، أو في التصورِ والتصديقِ، وكلُّ عِلْمٍ تَطَرَّقَ إليه تَصْديقٌ فَمِنْ ضَرَورَتِهِ أنْ يَتَقَدَّمَ عليهِ مَعْرِفتانِ أي تَصَوُّرَانِ فإنَّ منْ لا يعرفُ المفردَ كيفَ يعْلَمُ المُرَكَّبَ ؟ ومنْ لا يفهمُ معنى العالَم ومعنى الحادِثْ،كيفَ يعلمُ أنْ العالَمَ حادِثٌ؟

ومعرفِةُ المفرداتِ قِسْمانِ:

أوليٌ وهو الذي لا يُطْلَبُ بالبَحْثِ وهَوَ الذي يَرْتَسِمُ مَعْناهُ في النَفْسِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَطَلَبٍ كَلَفْظِ “الوُجودِ” و”الشَيءِ” وككثيرٍ مِنَ المَحْسوسَاتِ.

ومطلوبٌ وهوَ الذي يَدُلُّ اسْمُهُ مِنْهُ على أَمْرٍ جُمْلِيٍّ غَيْرِ مُفَصَّلٍ ولا مُفَسَّرٍ، فَيُطْلَبُ تَفْسيرُهُ بالحَدِّ.

وكذلك العلم ينقسم إلى: أولٍ كالضرورياتِ وإلى مطلوبٍ كالنظرياتِ.

والمطلوبُ من المعرفةِ لا يُقْتَنَصُ إلا بالحَدِّ، والمطلوبُ من العلم الذي يَتَطَرَّقُ إليه التصْديقُ والتكْذيبُ، لا يُقْتَنَصُ إلا بالبُرْهانِ. فالبرهانُ والحدُّ هو الآلةُ التي بها يُقْتَنَصُ سائرُ العلومِ المطلوبةِ، فلتكنْ هذه المقدمةُ المرْسُومَةُ لِبَيَانِ مداركِ العقولِ مشتملةً على دِعَامَتَيْنِ: دِعامَةٍ في الحدِّ، ودِعامَةٍ في البُرْهَانِ.

الدعامةُ الأولى في الحدِّ، ويَجِبُ تَقْديمُها لأنَّ مَعْرِفَةَ المُفْرَدَاتِ تَتَقَدَّمُ على معرفةِ الُمَرَّكَبَاتِ، وتَشْتَمِلُ على فَنَّيْنِ: فَنٍّ يَجْري مَجْرَى القَوانِينِ وَفَنٍّ يجرِي مَجرى الامْتِحَانَاتِ لِتِلْكَ القَوانينِ.

الفن الأول في القوانين وهي سِتَّةٌ :

القانون الأول:

إنَّ الحَدَّ إنما يُذْكَرُ جَواباً عنْ سؤالٍ في المحاوراتٍ. ولا يكونُ الحدُّ جَواباً عنْ كُلِّ سؤالٍ، بلْ عنْ بعضِهِ. والسؤالُ طَلَبٌ، وَلَهُ -لا مَحَالَةَ- مَطْلوبٌ وصِيغَةٌ، والصِيَغُ والمطالِبُ كثيرةٌ، ولكنَّ أُمَّهَاتِ المطالِبِ أَرْبَعٌ:

المَطْلَبُ الأولُ ما يطلب بصيغة “هل” ؛ يُطْلَبُ بهذهِ الصيغةِ أمران:

 إمَّا أَصْلُ الوجودِ كقولكَ: “هلِ اللهُ تعالى موجودٌ ؟” أوْ يُطلبُ حالُ الموجودِ وََوَصْفُهُ، كقولك :“هل الله تعالى خالق البشر ؟” و“هل الله تعالى متكلم وآمر وناه ؟”.

المَطْلَبُ الثاني ما يطلب بصيغة “ما” ويُطْلَقُ لَطَلَبِ ثلاثَةِ أُمورٍ :

الأول: أنْ يُطْلَبَ به شَرْحُ اللفظ كما يقولُ من لا يَدْري العُقَارَ: ما العُقَارُ؟ فَيُقَالُ له: الخمْرُ -إذا كانَ يَعْرِفُ لَفْظَ “الخَمْرِ”.

الثاني: أنْ يُطْلَبَ لَفْظٌ مُحَرَّرٌ جَامِعٌ مَانِعٌ، يَتَمَيَّزُ به المسْؤولُ عنهُ مِنْ غَيْرِهِ ،كيفما كانَ الكلامُ ،سواءٌ كانَ عبارةً عن عَوارِضِ ذاتِهِ ولوازِمِهِ، البعيدَةِ عن حقيقةِ ذاتِهِ، أو حقيقةِ ذاتِهِ، كما سيأتي الفرق بين الذاتي والعرضي. كقولِ القائلِ: “ما الخمرُ؟” فيقالُ: “هُوَ الماِئعُ الذي يَقْذِفُ بالزَّبَدِ ثُمَّ يَسْتَحيلُ إلى الحُموضَةِ ويُحْفَظُ في الدَنِّ”. والمقصودُ أنْ لا يَتَعَرَّضَ لحقيقةِ ذاتِهِ، بلْ يَجْمَعُ مِنْ عَوارِضِهِ ولوازِمِهِ ما يساوي بِجُمْلَتِهِ الخَمْرَ ،بحيثُ لا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْرٌ، ولا يَدْخُلُ فيه ما لَيْسَ بِخَمْرٍ.

والثالث: أنْ يُطْلَبَ بِهِ ماهِيَّةُ الشَيءِ وحقيقَةُ ذاتِهِ، كَمَنْ يَقولُ: “ما الخمر؟” فيقالُ: هوَ شَرَابٌ مُسْكِرٌ مُعْتَصَرٌ مِنَ العِنَبِ. فيكونُ ذلكَ كاشفاً عَنْ حَقِيقَتِهِ، ثُمَّ يَتْبَعُهُ -لامَحَالَةَ- التمييزُ. واسْمُ الحَدِّ في العَادَةِ قدْ يُطْلَقُ على هَذِهِ الأَوْجُهِ الثلاثةِ بالاشتراكِ((أي باشتراك المعاني الثلاثة بلفظٍ واحد هو : الحد))، فَلْنَخْتَرِعْ لِكُلِّ واحِدٍ اسماً، وَلْنُسَمِّ الأوَّلَ حَدَّاً لَفْظِيَّاً إذْ السائِلُ لا يَطْلُبُ بِهِ إلَّا شَرْحَ اللفْظِ. وَلْنُسَمِّ الثانيَ حَدَّاً رَسْمِيَّاً((الرسم هنا من المعنى القديم للكلمة و هو كتب الشيء على هيئة مخصوصة تُعرَفُ عند القارئين بالاصطلاح))، إذْ هُوَ مَطْلَبٌ مُرْتَسِمٌ بالعِلْمِ غَيْرُ مُتَشَوِّفٍ إلى دَرْكِ حَقِيقَةِ الشَيْءِ. وَلْنُسَمِّ الثالِثَ حدَّاً حقيقياً إذْ مَطْلَبُ الطالِبِ مِنْهُ دَرْكُ حَقِيقَةِ الشيءِ، وهَذا الثالِثُ شَرْطُهُ أَنْ يَشْتَمِلَ على جَمِيعِ ذاتِيَّاتِ الشَيءِ، فإنَّهُ لو سُئِلَ عنْ حَدِّ الحَيَوانِ فَقِيلَ: “جسمٌ حَسَّاسٌ”، فقدْ جِيءَ بَوَصْفٍ ذَاتيٍّ ،وهُوَ كافٍ في الجَمْعِ والمَنْعِ، وَلَكِنَّهُ نَاقِصٌ، بَلْ حَقُّهُ أنْ يُضَافَ إليهِ المُتَحَرِّكُ بالإرَادَةِ، فإنَّ كُنْهَ حَقِيقَةِ الحيوانِ يدْرِكُهُ العَقْلُ بِمَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ، فأما المُرْتَسِمُ الطالِبُ للتَمْييزِ فَيَكْتَفِي “بالحَسَّاسِ”، وإنْ لمْ يُقَلْ أَنَّهُ جِسْمٌ أيضاً.

المطلب الثالث ما يُطلَبُ بصيغة “لِمَ” وهو سؤالٌ عن العِلَّةِ وجوابه بالبرهان على ما سيأتي حقيقته.

المطلب الرابع ما يطلبُ بصيغة “أي” وهو الذي يطلب به تمييزُ ما عُرِفَ جُمْلَتُهُ عما اخْتَلَطَ بهِ:

كما إذا قيل: ما الشجرُ؟ فقيلَ: إنه جِسمٌ ! فينبغي أنْ يُقالَ: أَيُّ جِسمٍ هُوَ ؟ فيقال: نامٍ.

وأما مطلب “كيف” و “أين” و “متى” وسائرِ صِيَغِ السؤالِ فداخلٌ في مطلبِ “هل”، والمطلوبُ بِهِ صِفَةُ الوجودِ.

القانون الثاني:

إنَّ الحادَّ ينبغي أنْ يكونَ بَصيراً بالفَرْقِ بينَ الصفاتِ الذاتيةِ واللازمةِ والعَرَضِيَّةِ، وذلك غامضٌ فلا بُدَّ من بيانه. فنقول:

المعنى إذا نُسِبَ إلى المعنى الذي يُمكنُ وَصْفُهُ بِهِ، وُجِدَ -بالإضافةِ إلى الموصوفِ- إما ذاتياً له، ويسمى صِفَةَ نَفْسٍ، وإما لازماً، ويُسمى تابعاً، وإما عارضاً، لا يَبْعُدُ أنْ يَنْفَصِلَ عنه في الوجود. ولا بُدَّ منْ إتقانِ هذه النسبةِ، فإنها نافعةٌ في الحدِّ والبرهانِ جميعاً.

أما الذاتي فإني أعني به كلَّ داخل في ماهِيَّةِ الشيء وَحَقِيقَتِهِ دُخُولاً لا يُتَصَوَّرُ فهمُ المعنى دونَ فَهْمِهِ؛ وذلك كاللَوْنِيَّةِ للسوادِ، والجِسْمِيَّةِ للفَرَسِ والشجرِ، فإنَّ مَنْ فَهِمَ الشَجَرَ فقدْ فَهِمَ جسماً مخصوصاً، فتكونُ الجسميةُ داخلةً في ذات الشجريةِ دخولاً به قِوامُها في الوجودِ والعقلِ؛ لو قُدِّرَ عَدَمُها لَبَطَلَ وجودُ الشَجَرِيَّةِ، وكذا الفَرَسُ، ولو قُدِّرَ خُروجها عن الذِهْنِ لَبَطَلَ فَهْمُ الشَّجَرِ والفَرَسِ من الذهْنِ. وما يَجْرِي هذا المَجْرَى فلا بُدَّ مِنْ إدْراجِهِ في حَدِّ الشَيء، فَمَنْ يَحُدُّ النباتَ يلزَمُهُ أنْ يقولَ: “جِسْمٌ نَامٍ لامَحَالَةَ”.

وأما اللازمُ فما لا يفارقُ الذاتَ البَتَّةَ، ولَكِنَّ فَهْمَ الحقيقَةِ والماهِيَّةِ غيرُ موْقوفٍ عليه، كوقوعِ الظِلِّ لشخصِ الفرسِ والنباتِ والشجرِ عندَ طلوعِ الشمسِ، فإنَّ هذا أمرٌ لازمٌ، لا يُتَصَوَّرُ أنْ يُفَارِقَ وُجُودَهُ، عندَ مَنْ يُعَبِّرُ عن مجاري العاداتِ باللُّزُومِ وَيَعْتَقِدُهُ،((يعني المعتزلة و الإمامية)) ولكنهُ من تَوابِعِ الذاتِ ولوازِمِهِ وليسَ بذاتيٍّ لهُ. وأعني به أنَّ فَهْمَ حقيقتِهِ غيرُ موقوفٍ على فهم ذلك له، إذِ الغافلُ عنْ وقوعِ الظلِّ، يَفْهَمُ الفَرَسَ والنباتَ بل يفهمُ الجسمَ الذي هو أَعَمُّ منه، وإنْ لم يَخْطُرْ ببالِهِ ذلك؛ وكذلكَ كَوْنُ الأرضِ مخلوقةً وصفٌ لازمٌ للأرضِ لا يُتَصَوَّرُ مفارَقَتُهُ لهُ((يريد لها و التذكير جائز))، ولكنَّ فهمَ الأرضِ غيرُ موقوفٍ على فَهْمِ كونِها مَخْلُوقَةً، فَقَدْ يدرِكُ حقيقةَ الأرضِ والسماءِ مَنْ لم يدركْ بعْدُ أنَّهما مخلوقتان، فإنَّا نَعْلَمُ أولا حَقيقةَ الجسمِ، ثم نَطْلُبُ بالبرهانِ كونَهُ مَخْلوقَاً، ولا يمكننا أنْ نَعْلَمَ الأرضَ والسماءَ ما لمْ نَعْلَمِ الجسمَ.

وأما العارضُ فأعني به ما ليسَ من ضرورَتِهِ أنْ يُلازِمَ، بل يُتَصَوَّرُ مفارَقَتُهُ، إما سريعاً كحُمْرَةِ الخَجَلِ، أو بطيئاً كَصُفْرَةِ الذَهَبِ، وزُرْقَةِ العَيْنِ، وسَوادِ الزِنْجِيِّ، ورُبَّمَا لا يَزولُ في الوجودِ، كزرقة العينِ، ولكنْ يُمكِنُ رَفْعُهُ في الوَهْمِ.

وأما كونُ الأرضِ مخلوقةً وكونُ الجسم الكثيفِ ذا ظِلٍّ مانِعٍ نورَ الشمسِ فإنَّهُ مُلازمٌ لا تُتَصَوَّرُ مفارَقَتُهُ.

ومِن مثاراتِ الأغاليطِ الكثيرةِ التباسُ اللازمِ التابعِ بالذاتيِّ، فإنَّهما مُشْتَرِكانِ في استحالةِ المفارقةِ، واستقْصاءُ ذلكَ في هذه المقدَّمَةِ، التي هي كالعَلَاوَةِ على هذا العِلْمِ، غيرُ مُمْكِنٍ، وقدِ اسْتَقْصَيْنَاهُ في كتابِ مِعْيارِ العِلْمِ، فإذا فهمْتَ الفرقَ بينَ الذاتيِّ واللازِمِ، فلا تُورِدْ في الحدِّ الحقيقيِّ إلا الذاتياتِ، وينْبَغَي أنْ تُورِدَ جميعَ الذاتياتِ، حتى يُتَصَوَّرَ بِها كُنْهُ حَقِيقَةِ الشيءِ وماهيتُهُ. وأعني بالماهيةِ ما يَصْلُحُ أنْ يُقَالَ في جَوابِ ما هو ؟ فإنَّ القائِلَ: ما هو؟ يَطْلُبَ حَقَيقَةَ الشيءِ فلا يَدْخُلُ في جَوابِهِ إلا الذَاتيُّ.

والذاتيُّ يَنْقَسِمُ إلى عامٍّ ويُسَمَّى جِنْسَاً، وإلى خَاصٍّ ويُسمى نوعاً. فَإِنْ كانَ الذاتيُّ العامُ لا أعَمَّ مِنْهُ سُمِيَّ جِنْسَ الأجْناسِ، وإنْ كانَ الذاتيُّ الخاصُّ لا أَخَصَّ مِنْهُ سُمِيَّ نَوعَ الأنْواعِ، وهو اصطلاحُ المنْطِقِيِّيْنَ، وَلِتَصَالُحِهِمْ عليهِ فإنَّهُ لا ضَرَرَ فيهِ، وهو كالمُسْتَعْمَلِ أيضاً في علومِنَا. ومثالُهُ أنَّا إذا قُلْنَا: الجوهَرُ ينقسِمُ إلى جسمٍ وغيرِ جسمٍ، والجسمُ ينقسمُ إلى نامٍ وغير نامٍ، والنامي ينقسمُ إلى حَيَوانٍ وغيرِ حَيَوانٍ، والحيوانُ ينقسمُ إلى عاقلٍ وهو الإنسانُ وغيرِ عاقلٍ، فالجوهَرُ جِنْسُ الأجناسِ، إذْ لا أَعَمَّ منْهُ، والإنْسانُ نَوعُ الأنواعِ، إذْ لا أَخَصَّ منهُ، والنامي نوعٌ بالإضافة إلى الجسمِ، لأنه أخَصُّ منهُ، وجنسٌ بالإضافة إلى الحيوانِ، لأنه أعمُّ منه، وكذلك الحيوان بين النامي الأعم والإنسانِ الأخصِّ.

فإنْ قيلَ:

كيفَ لا يكونُ شيءٌ أَعَمَّ من الجوهَرِ، وكونُهُ موجوداً أَعَمُّ منه؟ وكيفَ لا يكون شيءٌ أعمَّ من الجوهَرِ، وكونُه موجوداً أعَمُّ منهُ؟ وكيف لا يكون شيءٌ أخصُّ من الإنسانِ، وقولُنا: شيخٌ وصبيٌّ وطويلٌ وقصيرٌ وكاتبٌ وخيَّاطٌ أَخَصُّ مِنْهُ ؟

قُلْنَا:

لم نَعْنِ في هذا الاصطلاحِ -بالجنسِ- الأعَمَّ فقطْ، بلْ عَنَيْنَا الأَعَمَّ الذي هو ذاتيٌّ للشيءِ أي داخلٌ في جوابِ ما هُوَ، بحيثُ لو بَطَلَ عنِ الذِهْنِ التصديقُ بثبوتِهِ، بَطَلَ المحْدودُ وحقيقَتُهُ عن الذِهْنِ، وخَرَجَ عنْ كَوْنِهِ مَْفهوماً للعقْلِ. وعلى هذا الاصطلاحِ، فالموجودُ لا يدخل في الماهيةِ إذ بطلانُه لا يوجبُ زوالَ الماهيةِ عنِ الذهْنِ،  وَبَيَانُه إذا قالَ القائلُ: ما حدُّ المُثَلَّثِ ؟ فقلنَا: شكلٌ يحيطُ به ثلاثةُ أضْلاعٍ، أو قالَ: ما حدُّ المُسَبَّعِ ؟ فقلنا: شكلٌ يحيطُ به سبعةُ أضلاعٍ، فَهِمَ السائلُ حَدَّ المسبَّعِ، وإنْ لم يَعْلَمْ أنَّ المسبَّعَ موجودٌ في العالم أصلاً، فبُطْلانُ العلمِ بوجودِهِ لا يُبْطِلُ عن ذِهْنِهِ فَهْمَ حقيقةِ المسبَّعِ. ولو بَطَلَ عن ذِهْنِهِ الشكلُ لَبَطَلَ المسبَّعُ، ولم يبقَ مفهوماً عندَهُ.

وأمَّا ما هُوَ أَخَصُّ منَ الإنسانِ، مِنْ كَونِه طَويلاً أو قصيراً أو شيخاً أو صبياً أو كاتباً أو أبيضَ أو محترفاً، فشيءٌ مِنْهُ، لايَدْخُلُ في الماهيَّةِ، إذْ لا يَتَغَيَّرُ جَوابُ الماهيَّةِ بتَغَيُّرِهِ.

فإذا قيل لنا: ما هذا؟ فقلْنا: إنسانٌ- وكانَ صغيراً فَكَبُرَ، أو قصيراً فَطَالَ- فَسُئِلْنَا مَرَّةً أخرى، ما هو ؟- لَسْتُ أقولُ مَنْ هُوَ لكانَ الجوابُ ذلكَ بِعَيْنِهِ، ولوْ أُشيرَ إلى ما يَنْفَصِلُ من الإحْليلِ عنْدَ الوقَاعِ، وقيلَ: ما هوَ؟ لقلْنا نُطْفَةٌ، فإذا صارَ جنيناً، ثم مولوداً، فقيلَ: ما هو؟ تَغَيَّرَ الجوابُ ولمْ يَحْسُنْ أنْ يُقَالَ: نُطْفَةٌ بلْ يقالُ: إنسانٌ. وكذلكَ الماءُ إذا سَخَنَ فقيلَ: ما هو؟ قلنا: ماء، كما في حالةِ البرودةِ؛ ولو استحالَ بالنارِ بخاراً ثم هواءً ثم قيلَ: ما هو؟ تَغَيَّرَ الجوابُ.

فإذا انقسمتِ الصفاتُ إلى: ما يَتَبَدَّلُ الجوابُ عن الماهيَّةِ بتبَدُّلِها، وإلى: ما لا يتبدلُ، فلنذكرْ في الحدِّ الحقيقي ما يدخلُ في الماهيةِ، وأما الحدُّ اللفظيُّ والرَسْمِيُّ فَمَؤُونَتُهُما خفيفةٌ، إذ طالبُهُمَا قانِعٌ بتبديلِ لَفْظِ العُقَارِ بالخَمْرِ، وتبديلِ لفظِ العلمِ بالمعرفةِ، أو بما هو وَصْفٌ عَرَضِيٌّ جامعٌ مانعٌ، وإنما العويصُ المُتَعَذِّرُ هوَ الحدُّ الحقيقيُّ وهو الكاشِفُ عنْ ماهيَّةِ الشيءِ لا غَيَرَ.

تصفح :<< تمهيد لكتاب المستصفى-٢تمهيد لكتاب المستصفى-٥ >>
0 0 أصوات
Article Rating
اشترك
Notify of

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
نحب سماع رأيكم ، فأفيدونا من فضلكمx
()
x