القانون الثالث:
أَصْلُ السؤال وتعريفه الصحيحُ:
إنَّ ما وَقعَ السؤالُ عن ماهيتهِ، وأردتَ أنْ تَحُدَّهُ حَدَّاً حَقيقِيَّاً فَعليكَ فيهِ وظائفُ لا يكونُ الحدُّ حقيقياً إلا بها، فإنْ تَرَكْتَهَا سَمَّيناه رَسْمِيَّاً، أو لَفْظِيَّاً، وَيَخْرُجُ عنْ كَوْنِهِ مُعْرِبَاً عن حقيقةِ الشيءِ، ومُصَوِّرَاً لِكُنْهِ معناهُ في النفس.
الأولى: أنْ تَجْمَعَ أَجْزاءَ الحدِّ مِنَ الجنسِ والفصولِ، فإذا قالَ لَكَ1- مُشيرا إلى ما يَنْبُتُ من الأرضِ- “ما هوَ؟”، فلا بدَّ أن تقولَ: “جسمٌ”، لكنْ لو اقتصرتَ عليه لَبَطَلَ عَليكَ “بالحَجَرِ”((أي لبطل تعريفُك ، لأن الحجرَ أيضاً جسمٌ))، فتحتاجُ إلى الزيادةِ فتقول: نامٍ فتحترزَ به عَمَّا لا يَنمو، فهذا الاحترازُ يُسَمَّى فَصْلاً، أي فَصَلْتَ به المحدودَ عن غيره.
الثانية: أنْ تذكرَ جميعَ ذاتياتِهِ وإنْ كانتْ أَلْفَاً، ولا تبالي بالتطويل، لَكِنْ يَنْبَغي أنْ تُقَدِّمَ الأعَمَّ على الأخَصِّ، فلا تقولُ: “نامٍ جسمٌ” !! بلْ بِالعَكْسِ، وهذهِ لو تَرَكْتَهَا لَتَشَوَّشَ النَظْمُ، ولمْ تَخرجْ الحقيقةُ عن كونهِا مذكورةً، مع اضطرابِ اللفظِ. فالإنكارُ عليكَ في هذا أقلُّ مما في الأولِّ، وهو أنْ تَقْتَصِرَ على الجسمِ.
الثالثة: إنَّكَ إذا وَجَدْتَ الجنسَ القريبَ، فلا تَذْكُرِ البعيدَ مَعَهُ، فتكونَ مُكَرِّرَاً: تقول: “مائعٌ شرابٌ” ؛ أو تَقْتَصِرَ على البعيدِ فتكونَ مُبْعِدَاً، كما تقولُ في حدِّ الخمرِ: “جسمٌ مُسكرٌ مأخوذٌ من العِنَبِ” !! وإذا ذَكَرْتَ هذا فقدْ ذَكَرْتَ ما هو ذَاتِيٌّ وَمُطَّرِدٌ ومُنْعَكِسٌ، لكنَّهُ مختلٌّ قاصرٌ عن تصويرِ كُنْهِ حقيقةِ الخمرِ، بلْ لو قُلْتَ: “مائعٌ مسكرٌ” كانَ أقربَ من الجسمِ، وهو أيضاً ضعيفٌ، بلْ ينبغي أنْ تقولَ شرابٌ مسكرٌ فإنه الأقربُ الأخَصُّ ولا تجدْ بعدَهُ جنساً أَخَصَّ مِنْهُ. فإذا ذكرْتَ الجنسَ فاطلبْ بَعدَهُ الفصْلَ، إذْ “الشرابُ” يتناولُ سائرَ الأشْرِبَةِ، فاجْتَهِدْ أنْ تَفْصِلَ بالذاتياتِ، إلا إذا عَسُرَ عليكَ ذلكَ وهو كذلكَ عسيرٌ في أكثرِ الحدودِ، فاعدلْ بَعْدَ ذكرِ الجنسِ إلى اللوازمِ، واجتهدْ أن يكونَ ما ذكرتَهُ من اللوازمِ الظاهرةِ المعروفةِ فإنَّ الخَفِيَّ لا يُعرفُ، كما إذا قيلَ: “ما الأسد” ؟ فقلتَ: “سَبُعٌ أَبْخَرٌ”2، لِيَتَمَيَّزَ بِالبَخْرِ عنِ الكلبِ فإنَّ البَخْرَ من خواصِّْ الأَسَدِ لكنَّهُ خَفِيٌّ. ولو قُلْتَ :” سَبُعٌ شُجاعٌ عريضُ الأعَالي” لكانَتْ هذه اللوازمُ والأعراضُ أَقْرَبَ إلى المقْصودِ لأنَّها أَجْلى.
وأكثرُ مما تَرى في الكُتُبِ من الحدودِ رَسْمِيَّةٌ، إذ الحقيقيةُ عَسِرَةٌ جِدَّاً، وقد يَسْهُلُ دَرْكُ بعضِ الذاتياتِ ويعسرُ بعضُها، فإنَّ دركَ جميعِ الذاتياتِ حتى لا يَشِذَّ واحدٌ منْها عَسِرٌ؛ والتمييزُ بينَ الذاتيِ واللازمِ عَسِرٌ، ورعايةُ الترتيبِ حتى لا يُبْتَدَأَ بالأخَصِّ قبلَ الأعمِّ عسرٌ، وطلبُ الجنسِ الأقربِ عسرٌ، فإنكَ ربما تقولُ في الأسدِ إنه حيوانٌ شجاعٌ ولا يَحْضُرُكَ لفظُ السَبُعِ فَتَجْمَعُ أنواعاً من العُسْرِ. وأحسنُ الرسمياتِ ما وُضِعَ فيه الجنْسُ الأقربُ وتُمِّمَ بالخواصِّ المشهورةِ المعروفةِ.
الرابعة: أنْ تَحْتَرِزَ مِنَ الألفاظِ الغَريبَةِ الوَحْشِيَّةِ والمجازِيَّةِ البعيدةِ والمُشْتَرَكَةِ المُتَرَدِّدَةِ، واجتهدْ في الإيجازِ ما قَدَرْتَ، وفي طَلَبِ اللفْظِ النَصِّ ما أَمْكَنَكَ، فإنْ أَعْوَزَكَ النَصُّ وافتقرْتَ إلى الاسْتِعَارةِ، فاطلبْ مِنَ الاسْتِعاراتِ ما هوَ أَشَدُّ مُناسَبَةً للغَرَضِ، واذكرْ مُرادَكَ للسائلِ، فما كُلُّ أمرٍ معقولٍ له عبارةٌ صريحةٌ موضوعَةٌ للإنْبَاءِ عنهُ. ولو طَوَّلَ مُطَوِّلٌ، واسْتعارَ مستعيرٌ أو أَتَى بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ، وعُرِفَ مرادُهُ بالتصريحِ، أو عُرِفَ بالقَرينةِ فلا ينبغي أنْ يُسْتَعْظَمَ صنيعُهُ، ويُبَالَغَ في ذَمِّهِ، إنْ كانَ قدْ كَشَفَ عن الحقيقةِ بذكرِ جميعِ الذاتياتِ، فإنه المقصودُ، وهذه المزايا تحسيناتٌ وتَزْييناتٌ كالأبازيرِ من الطعامِ المقصودِ.
وإنما المُتَحَذْلِقُونَ يَسْتَعْظِمونَ مثلَ ذلكَ، ويَسْتَنْكِرُونَهُ غايَةَ الاستنكارِ، لمَيْلِ طباعِهِم القاصرةِ، عن المقصودِ الأصليِّ، إلى الوسائِلِ والرسومِ والتوابِعِ، حَتَّى رُبَّمَا أنْكَروا قَوْلَ القائلِ في حد العلمِ: (إنه الثِقَةُ بالمعلومِ أو إدراكُ المعلومِ) ، من حيث إن الثقةَ مترددةٌ بين الأمانةِ والفَهمِ . وهذا هوسٌ ! لأن الثقةَ إذا قُرِنَتْ بالمعلومِ تَعَيَّنَ فيها جِهَةُ الفَهْمِ، ومنْ قالَ: “حَدُّ اللونِ ما يُدْرَكُ بحاسَّةِ العينِ على وجهِ كذا وكذا”، فلا ينبغي أن يُنْكَرَ مِنْ حيثُ إنَّ لفظَ “العينِ” مُشْتَرَكٌ بينَ الميزانِ والشمسِ والعضو الباصرِ، لأنَّ قرينةَ “الحاسّةِ”3 أذْهَبَتْ عنهُ الاحتمالَ، وحَصَلَ التَفْهِيمُ الذي هوَ مطلوبُ السؤالِ. واللفظُ غيرُ مرادٍ بعينِهِ في الحدِّ الحقيقِيِّ إلا عِنْدَ المُرْتَسِمِ الذي يَحُومُ حَوْلَ العباراتِ فيكونُ اعتراضُهُ عليها وشَغَفُهُ بها.
القانون الرابع:
في طريقِ اقتناصِ الحدِّ:
اعلمْ أنَّ الحدَّ لا يَحْصُلُ بالبرْهَانِ. لأنَّا إذا قُلنا في حدِّ الخمرِ أنَّهُ شَرابٌ مُسْكِرٌ، فقيلَ لنا: “لِمَ” ؟ لكانَ محُالاً أنْ يُقامَ عليهِ برهانٌ. فإنْ لم يَكُنْ مَعَنَا خَصْمٌ وكُنَّا نَطْلُبُهُ((أي نطلب حد الخمر)) فكيفَ نَطْلُبُهُ بالبرهانِ ؟ وقولُنا: (الخمرُ شرابٌ مسكرٌ) دعوىً هيَ قضيةٌ محكومُها الخمرُ، وحكْمُها أنَّهُ شَرَابٌ مسكرٌ، وهذه القَضِيَّةُ إنْ كانتْ معلومةًً بلا وَسَطٍ فلا حاجةَ إلى البرهانِ، وإنْ لَمْ تُعْلَمْ وافْتَقَرَتْ إلى وَسَطٍ- وهو معنى البرهان، أعني طلب الوسط- كانَ صِحَّةُ ذلكَ الوَسَطِ للمحكومِ عليهِ وصحةُ الحكمِ للوسطِ ؛كلُّ واحدٍ قضيةٌ واحدةٌ، فبماذا تُعرفُ صِحَّتُهَا؟((الوسط في المنطق اليوناني يطلق على المقدمة الصغرى، كقولنا: سقراط إنسان في المثل المشهور، يقول الغزالي هنا: إن كان قولنا: الخمر شراب مسكر بحاجة لبرهان فهذا يعني حاجتنا لمقدمة أخرى من قبيل : الخمر شراب أو شراب أحمر مثلاً وهو معنى قوله: صحة الوسط للمحكوم عليه، و حاجتَنا لمقدمة كبرى من قبيل : كل شراب أحمر مسكرٌ، فهذا معنى قوله صحة الحكم للوسط)) فإنِ احتيجَ إلى وَسَطٍ، تَدَاعى إلى غيرِ نهايةٍ، وإنْ وَقَفَ في موضعٍ بغيرِ وَسَطٍ، فبماذا تُعْرَفُ في ذلك الموضِعِ صحتُهُ ؟؟ فَلْيُتَّخَذْ ذلكَ طريقاً في أوَّلِ الأمْرِ.
مثالُهُ لو قُلْنَا في حدِّ العِلْمِ إنَّهُ المعرفَةُ فقيلَ: “لِمَ”؟
فَقُلْنَا :”لأنَّ كلَّ عِلْمٍ فهوَ اعْتِقَادٌ مثلاً، وكلُّ اعتقادٍ فهوَ معرفةٌ، فَكُلُّ علمٍ إذاً معرفةٌ”، لأنَّ هذا طريقُ البرهانِ على ما سيأتي.
فَيُقَالُ: وَلِمَ قلتُمْ: “كلُّ علمٍ فهو اعتقادٌ” ولِمَ قلتمْ :”كلُّ اعتقادٍ فهو مَعْرِفَةٌ” ؟
فيصير السؤالُ سؤالَيْنِ وَهَكَذَا يَتَدَاعَى إلى غيرِ نهايةٍ.
بَلِ الطريقُ أنَّ النزاعَ إنْ كانَ مَعَ خَصْمٍ أنْ يُقَالَ: عَرَفْنَا صِحَّتَهُ باطِّرَادِهِ وانْعِكَاسِهِ((الاطراد و الانعكاس مفهومان أساسيان في المنهج التجريبي الجديث الذي أوجده و طوَّره المسلمون ابتداء ، في علم أصول الفقه. و سو ف يأتي شرحهما بالتفصيل في لب الكتاب))، فهوَ الذي يُسَلِّمُهُ الخصمُ بالضرورةِ.((المقصود هنا قبول التعريف أو الحد القائل مثلاً الخمر هو كل شراب مُسكر))
وأمَّا كونُهُ مُعْرِبَاً عن تَمَامِ الحقيقةِ، رُبَّمَا يُنَازِعُ فِيهِ ولا يُقِرُّ بِهِ. فإنْ مَنَعَ((أي الخصم)) اطِّرَادَهُ وانْعِكَاسَهُ على أصلِ نَفْسِهِ، طالبْناهُ بأنْ يَذْكُرَ حَدَّ نَفْسِهِ، وقابَلْنَا أَحَدَ الحدَّيْنِ بالآخَرِ، وَعَرَفْنا ما فيهِ التفاوُتُ مِنْ زِيادَةٍ أو نُقْصَانٍ، وعرفْنا الوصْفَ الذي فيه يتفاوتانِ، وجَرَّدْنَا النَظَرَ إلى ذَلِكَ الوصفِ وأبْطَلْنَاهُ بِطَرِيقَةٍ أو أَثْبَتْنَاهُ بطريقةٍ.
مثالُهُ إذا قلْنا: “المَغْصوبُ مَضْمونٌ، وَوَلَدُ المغْصوبِ مغصوبٌ، فكانَ مضموناً” !
فقالوا: “لا نُسَلِّمُ أنَّ وَلَدَ المغصوبِ مَغْصُوبٌ”.
قلنا: “حَدُّ الغَصْبِ إثباتُ اليَدِ العَادِيَةِ على مالِ الغَيْرِ، وقَدْ وُجِدَ((أي وجِدَ هذا المعنى في ولد المغصوب لانه من مال الغير))، فَرُبَّمَا مَنَعَ كَوْنَ اليدِ عاديةً وكونَهُ إثْبَاتَاً، بلْ نَقُولُ: “هذا ثبوتٌ ولكنْ لَيْسَ ذلك مِنْ غَرَضِنَا”. بل ربَّمَا قالَ: “نُسَلِّمُ أنَّ هذا موجودٌ في وَلَدِ المغصوبِ، لكنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ هذا حدُّ الغَصْبِ”.
فهذا لا يُمكنُ إقامَةُ برهانٍ عليهِ إلا أنَّا نَقُولُ:
“هَوَ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ، فما الحدُّ عنْدَكَ”؟ فلا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ حتى نَنَظُرَ إلى مَوْضِعِ التفاوُتِ((أي التفاوت بين التعريفين أو الحدين)).
فيقولُ: “بلْ حَدُّ الغصبِ إثباتُ اليَدِ المُبْطِلَةِ المُزِيلَةِ لليدِ المُحِقَّةِ”.
فنقول قدْ زِدْتَ وَصْفَاً وهُوَ الإزَالَةُ، فَلْنَنْظُرْ هَلْ يُمْكِنُنُا أنْ نَقْدِرَ على اعْتِرافِ الخصْمِ بِثُبوتِ الغَصْبِ مَعَ عَدَمِ هذا الوَصْفِ؟ فإنْ قَدَرْنَا عليهِ، بانَ أَنَّ الزيادَةَ عليهِ محذوفةٌ، وذلكَ بأنْ نَقَولَ:
الغاصِبُ مِنَ الغاصِبِ يَضْمَنُ للمالِكِ. وقَدْ أَثْبَتَ اليَدَ المبطلةَ ولمْ يُزِلِ المُحِقَّةَ فإنها كانتْ زائلةً ! فهذا طريقُ قَطْعِ النِزَاعِ مع المُنَاظِرِ. وأما النَاظِرُ مَعَ نَفْسِهِ، إذا تَحَرَّرَتْ لَهُ حقيقَةُ الشيءِ ،وَتَخَلَّصَ لَهُ اللفظُ الدالُّ على ما تَحَرَّرَ في مَذْهَبِهِ ،عَلِمَ أَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْحَدِّ ،فلا يُعَانِدُ نَفْسَهُ.
القانون الخامس:
في حصرِ مداخلِ الخللِ في الحدودِ وهي ثلاثةٌ:
فإنَّهُ تَارَةً يدخل من جهة الجنس، وتارة من جهة الفصل ،وتارة من جهة أمر مشترك بينهما.
١- أما الخلل من جهة الجنس، فأنْ يؤخذ الفصلُ بدله، كما يقال في العشق إنه إفراط المحبة، وإنما ينبغي أن يقال: إنه المحبة المفرطة، فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة، ومن ذلكَ أن يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولك في الكرسي: إنه خشب يجلس عليه، وفي السيف إنه حديد يقطع به، بل ينبغي أن يقال للسيف: إنه آلة صناعيةٌ من حديدٍ مستطيلةٌ عرضها كذا، ويُقْطَعُ بِها كذا، فالآلَةُ جِنْسٌ والحديدُ مَحَلُّ الصورةِ لا جنسٌ.
وأبعدُ منه أن يؤخذ بدلَ الجنس ما كان موجوداً، والآن ليس بموجودٍ، كقولك للرماد:
إنه خشب محترق، وللولد: أنه نطفة مستحيلة((مستحيلة أي متحولة)). فإنَّ الحديدَ موجودٌ في السيفِ في الحالِ، والنطفةُ والخشبُ غيرُ موجودينَ في الولدِ والرمادِ.
ومن ذلك أن يؤخَذَ الجزءُ بَدَلَ الجنسِ، كما يقال في حد العَشَرَةِ: أنها خَمْسَةٌ وخمسةٌ.
ومن ذلكَ أنْ توضَعَ القُدْرَةُ مَوْضِعَ المقْدورِ كما يقالُ: “حَدُّ العفيفِ هو الذي يَقْوَى على اجْتِنَابِ اللَذَّاتِ الشهوانيةِ” وهو فاسدٌ ! بل هوَ الذي يَتْرُكُ، وإلا فالفَاسِقُ يقْوى على التَرْكِ ولا يَتْرُكُ.
ومن ذلكَ أن يضع اللوازم التي ليست بذاتية بدل الجنس، كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمسِ أو الأرضِ مثلاً.
ومن ذلك أن يضعَ النوعَ مكانَ الجنسِ، كقولك: “الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشر”.
٢- وأما من جهة الفصلِ فأن يأخذَ اللوازمَ والعَرَضِيَّاتِ في الاحْتِرازِ بَدَلَ الذاتياتِ، وأن لا يورِدَ جميعَ الفصولِ.
٣- وأما الأمورُ المشتركَةُ فَمِنْ ذلكَ أن يُحَدَّ الشيءُ بما هو أخفى منه كقولِ القائل:
“حد الحادث ما به القدرة” !!
ومن ذلك حد الشيءِ بما هو مساوٍ له في الخفاءِ، كقولكَ: “العلْمُ ما يُعْلَمُ بِهِ” ! أو “ما يكونُ الذاتُ به عالماً” !
ومن ذلكَ أن يعرف الضد بالضد، فيقول: “حد العلم ما ليس بظن ولا جهل… وهكذا حتى يحصر الأضداد” ، “وحد الزوجِ ما ليس بفرد” ، ثم يمكنك أن تقول في حد الفرد: “ما ليس بزوج”، فيدورُ الأمرُ ولا يحصل له بيانٌ.
ومن ذلكَ أن يأخذ المضافَ في حد المضافِ وهما متكافئانِ في الإضافةِ كقول القائل:
“حد الأب من له ابن”، ثم لا يعجز أن يقول: “حد الابن من له أب” ! بل ينبغي أن يقول: “الأب حيوانٌ، تَوَلَّدَ من نُطفَتِهِ حيوانٌ آخر، هو من نوعه، فهو أبٌ من حيث هو كذلك”. ولا يُحيلُ على الابنِ فإنهما في الجهلِ والمعرفةِ يتلازمان.
ومن ذلك أن يأخذ المعلولَ في حَدِّ العِلَّةِ ، مع أنه لا يُحَدُّ المعلولُ إلا بأنْ تؤخذَ العلة في حده. كما يقولُ في حد الشمس: “إنه كوكب يطلع نهارا”، فيقالُ: “وما حد النهار”؟ فَيَلْزَمُهُ أنْ يقولَ: “النهار زمانٌ من طلوع الشمس إلى غروبها” إن أرادَ الحدَّ الصحيحَ. ولذلك نظائرُ لا يمكن إحصاؤها.
القانون السادس:
في أن المعنى الذي لا تركيبَ فيه الْبَتَّةَ، لايمكِنُ حَدُّهُ إلا بطريقِ شرحِ اللفظِ أو بَطَريقِ الرسْمِ:
وأما الحدُ الحقيقي فلا؛ والمعنى المفرَدُ مثلُ الموجودِ، فإذا قيلَ لك: “ما حد الموجود” ؟ فغايتُكَ أن تقولَ: “هو الشيءُ” أو “الثابتُ” ، فتكونُ قدْ أَبْدَلْتَ اسماً باسمٍ مرادفٍ له، ربَّما يتساويانِ في التفهيمِ، وربما يكونُ أحدُهُما أخفى في موضع اللسانِ، كمنْ يقولُ: “ما العقار”؟ فيقال: “الخمرُ”. و” ما الغضنفر”؟ فيقال: “الأسد”.
وهذا أيضاً إنما يَحْسُنُ بَشَرْطِ أنْ يكونَ المذكورُ في الجوابِ أَشْهَرَ مِنَ المذكورِ في السؤالِ، ثم لا يكونُ إلا شرحاً لِلَّفْظِ، وإلا فَمَنْ يَطْلُبُ تَخليصَ ذاتِ الأسَدِ فلا يَتَخَلَّصُ له ذلكَ في عقلِهِ إلا بأنْ يقولَ: “هو سَبُعٌ مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ..” فأمَّا تَكْرارُ الألفاظِ المترادِفَةِ فلا يُغْنِيهِ.
ولو قلْتَ: “حَدُّ الموجودِ أَنَّهُ المعلومُ أو المذكورُ”، وقَيَّدْتَهُ بِقَيْدٍ احْتَرَزْتَ بِهِ عنْ المعدومِ كنْتَ[قد] ذَكَرْتَ شيئاً من توابِعِهِ ولوازِمِهِ، وكانَ حَدُّكَ رَسْمِيَّاً غَيْرِ مُعْرِبٍ عن الذاتِ، فلا يكونُ حقيقياً. فإذاً؛ الموجودُ لا حَدَّ لهُ فإنه مَبْدَأُ كُلِّ شَرْحٍ فكيفَ يُشْرَحُ في نفسِهِ ؟
وإنَّما قُلْنَا المعنَى المفْرَدُ ليسَ له الحدُّ الحقيقيُّ، لأنَّ معنى قولِ القائلِ: “ما حد الشيء”؟ قريبٌ من معنى قولهِ: “ما حد هذه الدار”؟ وللدار جهات متعددة، إليها ينتهي الحد، فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المختلفة المتعددة ،التي الدار محصورة مسورة بها.
فإذا قال ما حد السواد؟ فكأنه يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد، فإن السواد سواد، ولون، وموجود، وعرض، ومرئي، ومعلوم، ومذكور، وواحد، وكثير، ومشرق، وبراق، وكدر، وغير ذلك من الأوصاف، وهذه الأوصافُ بعضها عارض يزول ،وبعضها لازم لا يزول ولكن ليست ذاتية ككونه معلوما وواحدا وكثيرا وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ،ككونه لونا. فطالب الحد كأنه يقول:
“إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد” ؟ لتجمع له تلك المعاني المتعددة.
ويتخلص بأن يبتدىء بالأعم ويختم بالأخص، ولا يتعرض للعوارض، وربما يطلب أن لا يتعرض للوازم، بل للذاتيات خاصة، فإذا لم يكن المعنى مؤتلفا من ذاتيات متعددة -كالموجود- فكيف يتصور تحديده؟؟ فكان السؤال عنه كقول القائل: ما حد الكرة ؟-ويقدر العالم كله كرة- فكيف يذكر حده على مثال حدود الدار؟ إذ ليس له حدود، فإن حده عبارة عن منقطعه، ومنقطعه سطحه الظاهر، وهو سطح واحد متشابه، وليس سطوحا مختلفة، ولا هو منته إلى [جهات] مختلفة حتى يقالَ أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا، فهذا المثال المحسوس وإن كان بعيدا عن المقصود ،ربما يفهم مقصود هذا الكلام، ولا يُفهم من قولي: “السواد مركب من معنى اللونية والسوادية واللونية جنس والسوادية نوع”، أن في السواد ذواتٍ متعددةً متباينةً متفاضلةً، فلا تقلْ إن السوادَ لون وسواد، بل لون. ذلك اللون بعينه هو سواد، ومعناه يتركب ويتعدد للعقل، حتى يعقل اللونية مطلقا، ولا يخطر له السواد مثلا، ثم يعقل السواد فيكون العقل قد عقل أمرا زائدا ،لا يمكنه جحد تفاصيله في الذهن، ولكن لا يمكن أن يعتقد تفاصيله في الوجود.
ولا تظنن أن منكر الحال يقدر على حد شيء البتة، والمتكلمون يسمون اللونية حالا، لأن منكر الحال إذا ذكر الجنس، واقتصر بطل عليه الحد، وإن زاد شيئا للاحتراز ،فيقال له: إن الزيادة عين الأول، أو غيره، فإن كان عينه قلت بموجود موجود، والمترادفة كالمتكررة فهو إذا يبطل بالعرض، وإن كان غيره حتى اندفع النقض بقولك متحيز ولم يندفع بقولك موجود فهو غير بالمعنى لا باللفظ فوجب الإعتراف بتغاير المعنى في العقل، والمقصود بيان أن المفرد لا يمكن أن يكون له حد حقيقي، وإنما يحد بحد لفظي كقولك في حد الموجود إنه الشيء، أو رسمي كقولك في حد الموجود أنه المنقسم إلى الخالق والمخلوق والقادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني ، أو ما شئت من لوازم الموجود وتوابعه، وكل ذلك ليس ينبىء عن ذات الموجود، بل عن تابع لازم لا يفارقه البتة، واعلم أن المركب إذا حددته بذكر آحاد الذاتيات، توجه السؤال عن حد الآحاد، فإذا قيل لك :”ما حد الشجر “؟فقلت :”نبات قائم على ساق”، فقيل لك ما حد النباتِ فتقول “جسم نامٍ”، فيقال: “ما حد الجسم” ؟ فتقول: “جوهر مؤتلف أو الجوهر الطويل العريض العميق”، فيقال: “وما حد الجوهر” ؟ وهكذا…
فإن كلَّ مؤلَّفٍ فيه مفرداتٌ فله حقيقةٌ، وحقيقتهُ أيضا تأتلف من مفرداتٍ، ولا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية، بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية، لا تحتاج إلى طلب بصيغة الحد، كما أن العلوم التصديقية تطلب بالبرهان عليها، وكل برهان ينتظم من مقدمتين، ولا بد لكل مقدمة أيضا من برهان، يأتلف من مقدمتين وهكذا فيتمادى إلى أن ينتهي إلى أوليات، فكما أن في العلوم أوليات فكذلك في المعارف، فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة، فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى، كثبوت حقيقة الوجود في العقل، فإن طلب الحقيقة فهو معاند، كمن يطلب البرهان على أن الإثنين أكثر من الواحد.
فهذا بيان ما أردنا ذكره من القوانين.