تمهيد لكتاب المستصفى-٢

تمهيد لكتاب المستصفى-٢

بيان كيفية اندراج الشعب الكثيرة من أصول الفقه تحت هذه الأقطاب الأربعة:

لعلك تقول: أصول الفقه تشتمل على أبواب كثيرة، وفصول منتشرة، فكيف يندرج جملتُها تحت هذه الأقطاب الأربعة؟

فنقول:

القطب الأول هو الحكم، وللحكم حقيقة في نفسه، وانقسام. وله تعلق بالحاكم( وهو الشارع)، والمحكوم عليه (وهو المكلف)، وبالمحكوم فيه (وهو فعل المكلف)، وبالمُظْهِرِ لهُ (وهو السبب والعلة).

ففي البحث عن حقيقة الحكم في نفسه يتبينُ أنَّهُ: عبارةٌ عن خطاب الشرع، وليس وصفاً للفعْلِ، ولا حُسْنَ ولا قُبْحَ ولامَدْخَلَ للعقلِ فيه ولا حُكْمَ قَبْلَ ورودِ الشرعِ.

وفي البحث عن أقسام الحكم يتبين حدُّ الواجبِ والمحظورِ والمندوبِ والمباحِ والمكروهِ والقضاءِ والأداءِ والصحةِ والفسادِ والعزيمةِ والرخصةِ وغيرِ ذلك من أقسام الأحكام.

وفي البحث عن الحاكم يتبين أن لا حُكْمَ إلا للهِ، وأنه لا حكمَ للرسولِ ولا للسيدِ على العبدِ، ولا لمخلوقٍ على مخلوقٍ، بل كل ذلك حكمُ الله تعالى وَوَضْعُهُ، لا حكم لغيره.

وفي البحثِ عن المحْكُومِ عليه يَتَبَيَّنُ خطابُ الناسي والمُكْرَهِ والصبيِّ وخطابُ الكافِرِ بفروعِ الشرعِ وخطابُ السكرانِ ومن يجوزُ تكليفُهُ ومن لا يجوز.

وفي البحث عن المحكومِ فيه يتبين أن الخطاب يتعلق بالأفعالِ لا بالأعيانِ وأنه ليس وصفا للأفعال في ذواتها.

وفي البحث عن مُظْهِرِ الحُكْمِ يتبين حقيقةُ السببِ والعِلَّةِ والشَرْطِ والمَحَلِّ والعَلامة، فيتناول هذا القطب جملةً من تفاريق فصولِ الأصولِ أوردَها الأصوليون مُبَدَّدَةً في مواضع شتى، لا تتناسبُ، ولا تجمعُها رابطةٌ، فلا يهتدي الطالب إلى مقاصدها ووجه الحاجة إلى معرفتها وكيفية تعلقها بأصول الفقه.

القطب الثاني في المثمر وهو الكتاب والسنة والإجماع.

وفي البحث عن أصل الكتاب يتبين حد الكتاب وما هو منه وما ليس منه وطريق إثبات الكتاب وأنه التواتر فقط وبيان ما يجوز أن يشتمل عليه الكتاب من حقيقة ومجاز وعربية وعجمية.

وفي البحث عن السنة يتبين حكم الأقوال والأفعال من الرسول وطرق ثبوتها من تواتر وآحاد وطرق روايتها من مسند ومرسل وصفات رواتها من عدالة وتكذيب إلى تمام كتاب الأخبار ويتصل بالكتاب والسنة كتاب النسخ فإنه لا يرد إلا عليهما وأما الإجماع فلا يتطرق النسخ إليه.

وفي البحث عن أصل الإجماع تتبين حقيقته ودليله وأقسامه وإجماع الصحابة وإجماع من بعدهم إلى جميع مسائل الإجماع.

القطب الثالث في طرق الاستثمار وهي أربعة:

الأولى دلالة اللفظ من حيث صيغَتُهُ، وبه يتعلَّقُ النظر في صيغةِ الأمرِ والنهي والعمومِ والخصوصِ والظاهرِ والمؤول والنص. والنظرُ في كتاب الأوامرِ والنواهي والعمومِ والخصوصِ نظرٌ في مقتضى الصيغ اللغوية.

٢- وأما الدلالة من حيث الفحوى والمفهوم، فيشتمل عليه كتاب المفهوم ودليل الخطاب.

٣- وأما الدلالة من حيث ضرورة اللفظ واقتضاؤه، فيتضمن جملة من إشارات الألفاظ، كقول القائل أعتق عبدك عني فتقول أعتقت فإنه يتضمن حصول الملك للملتمس ولم يتلفظا به لكنه من ضرورة ملفوظهما ومقتضاه.

٤- وأما الدلالة من حيث معقول اللفظ فهو كقوله لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه يدل على الجائع والمريض والحاقن بمعقول معناه، ومنه ينشأ القياس، ويَنْجَرُّ إلى بيان جميع أحكام القياس وأقسامه.

القطب الرابع في المستثمر وهو المجتهدُ وفي مقابلته المقلِّدُ، وفيه يتبينُ صفات المجتهد، وصفات المقلد، والموضع الذي يجري فيه الاجتهادُ دون الذي لا مجالَ للاجتهاد فيه، والقولُ في تصويب المجتهدينَ، وجملة أحكام الاجتهاد.

فهذه جملة ما ذكر في علم الأصول وقد عرفتَ كيفية انشعابها من هذه الأقطاب الأربعةِ.

بيان المقدمة ووجه تعلق الأصول بها:

اعلمْ أنَّهُ لما رَجَعَ حَدُّ أصولِ الفقْهِ إلى معرفِةِ أَدِلَّةِ الأحكامِ، اشْتَمَلَ الحدُّ على ثلاثة ألفاظ: المعرفة والدليل والحكم  فقالوا: إذا لم يكن بُدٌّ من معرفِةِ الحكمِ حتى كانَ معرفَتُه أحدَ الأقطابِ الأربعةِ؛ فلا بُدَّ أيضاً من معرفة الدليلِ، ومعرفة المعرفةِ- أعني العلم- ثُمَّ العلمُ المطلوبُ لا وصولَ إليه إلا بالنظرِ فلا بد من معرفةِ النَظَرِ فَشَرَعوا في بيانِ حَدِّ العلمِ والدليلِ والنظرِ، ولم يقْتصروا على تعريف صورِ هذه الأمورِ، ولكن انْجَرَّ بِهِمْ إلى إقامةِ الدليلِ على إثباتِ العلمِ على منكريهِ من السوفسطائيةِ، وإقامة الدليل على النظرِ على منكري النظرِ، وإلى جُمْلةٍ من أقسامِ العلومِ وأقسامِ الأدلةِ.

وذلك مُجَاوَزَةٌ لحدِّ هذا العلمِ وخلطٌ له بالكلامِ!

وإنما أَكْثَرَ فيه المتكلمونُ من الأصوليينَ لَغَلَبَةِ الكلامِ على طبائِعِهِم، فَحَمَلَهُمْ حُبُّ صناعِتِهم على خَلْطِهِ بهذه الصَّنْعَةِ، كما حَمَلَ حُبُّ اللغةِ والنحوِ بعضَ الأصوليين على مزجِ جُمْلَةٍ من النحو بالأصول، فذكروا فيه من معاني الحروفِ ومعاني الإعراب جُمَلَاً هي من علمِ النحوِ خاصَّة. وكما حَمَلَ حبُّ الفقهِ جماعةً من فقهاء ما وراء النهر -كأبي زيد رحمه الله وأتباعِه- على مَزْجِ مسائلَ كثيرةٍ من تفاريعِ الفقهِ بالأصولِ، فإنهم وإن أوردوها في مَعْرِضِ المثالِ، وكيفية إجراءِ الأصلِ في الفروع، فقد أكثروا فيه. وعذر المتكلمينَ في ذكرِ حد العلمِ والنظرِ والدليلِ في أصول الفقه، أَظْهَرُ من عُذْرِهِم في إقامة البرهانِ على إثباتها مع المنكرينَ، لأنَّ الحدَّ يُثْبِتُ في النَفْسِ صُوَرَ هذه الأمورِ ولا أَقَلَّ مِنْ تَصَوُّرِها، إذا كان الكلامُ يتعلقُ بها، كما أنه لا أَقَلَّ من تَصَوُّرِ الإجماعِ والقياسِ لمن يخوض في الفقه. 

وأما معرفة حجية الإجماع وحجية القياس فذلك من خاصية أصول الفقه فذكر حجية العلم والنظر على منكريه استجرار الكلام إلى الأصول، كما أن ذكر حجية الإجماع والقياس وخبر الواحد في الفقه استجرار الأصول إلى الفروع.

وبعد أن عرفناك إسرافهم في هذا الخلط فإنا لا نرى أن نخلي هذا المجموع عن شيء منه لأن الفطامَ عن المألوف شديدٌ، والنفوسُ عن الغريب نافرةٌ، لكنا نقتصر من ذلك على ما تظهر فائدته على العموم في جملة العلوم من تعريف مدارك العقول وكيفية تدرجها من الضروريات إلى النظريات؛ على وجهٍ يتبين فيه حقيقة العلم والنظر والدليل وأقسامها وحججها، تَبَيُّنَاً بليغاً تخلو عنه مصنفات الكلام.

تصفح :<< تمهيد لكتاب المستصفى-٤تمهيد لكتاب المستصفى-٣ >>
0 0 أصوات
Article Rating
اشترك
Notify of

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
نحب سماع رأيكم ، فأفيدونا من فضلكمx
()
x