- ميزان العمل-الغزالي-١
- ميزان العمل- ٢
- ميزان العمل-٣
- ميزان العمل-٤
تمهيد:
قال الشيخ الهمام حجة الاسلام زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي رضي الله تعالى عنه وأرضاه:
لما كَانَتِ السَّعادَةُ التي هِيَ مَطْلُوبُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ لا تُنَالُ إلا بِالْعِلْمِ والْعَمَلِ، وافْتَقَرَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا إلى الإحِاطَةِ بِحَقِيْقَتِهِ وَمِقْدَارِهِ، وَوَجَبَ مَعْرِفُةِ العِلْمِ والتَمْيِيْزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِمِعْيَارٍ، وَفَرَغْنَا مِنْهُ؛ وجب مَعْرِفَةُ العَمَلِ المُسْعِدِ، والتمييزُ بينَهُ وبَيْنَ العَمَلِ المُشْقِي. فَافْتَقَرَ ذلك أيضاً إلى مِيزانٍ، فَأَرَدْنَا أنْ نَخُوضَ فِيه وَنُبَيِّنَ أنَّ الفُتَورَ عنْ طَلَبِ السَّعادةِ حَمَاقَةٌ، ثُمَّ نُبَيِّنَ العلمَ وَطَرِيقَ تَحْصِيلِهِ، ثم نُبيّنَ العَمَلَ المُسْعِدَ وطَريقَهُ. وكُلَّ ذَلِكَ بِطريقةٍ تَتَرَقَّى عن حَدِّ طريقِ التَقْلِيدِ إلى حَدِّ الوُضُوحِ، لَوِ اسْتُقْصِيَ بحقيقتِهِ وطُوِّلَ الكَلِمُ فيهِ ارْتَقَى إلى حَدِّ البُرْهَانِ على الشروطِ التي ذَكَرْنَاها في “مِعيارِ العِلْمِ”. وَإنْ كُنَّا لَسْنَا نُطَوِّلُ الكلامَ بِهِ، ولكنْ نُرْشِدُ إلى أُصُولِهِ وَقَوَانِيْنِهِ.
بيان أن الفتور عن طلب السعادة حماقة
السعادةُ الأُخْرَوِيَّةُ{هي} التي نَعْنِي بِها بَقَاءً بِلا فَنَاءٍ، وَلَذَّةً بِلا عَنَاءٍ، وَسُروراً بلا حُزْنٍ، وَغِنَىً بلا فَقْرٍ، وَكَمَالاً بلا نُقْصَانٍ، وعِزَّاً بلا ذُلٍّ، وبالْجُمْلَةِ كلَّ ما يُتَصَوَّرُ أنْ يَكونَ مَطْلَوبَ طَالبٍ ومَرْغوبَ راغِبٍ، وذلكَ أَبَدَ الآبادِ، وعلى وَجْهٍ لا يُنْقِصُهُ تَصَرُّمُ الأَحْقَابِ والآمَادِ، بَلْ لَوْ قَدَّرْنَا الدُّنْيا مَمْلُوءَةِ بالْدُرَرِ، وقَدَّرْنَا طائِراً يَخْتَطِفُ في كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ حَبَّةً وَاحِدَةً مِنْهَا، لَفَنِيَتْ الْدُّرَرُ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْ أَبَدِ الآبادِ شَيْءٌ، فَهَذَا لا يَحْتَاجُ إلى اسْتِحْثَاثٍ على طَلَبِهِ، وتَقْبِيحِ الفُتُورِ فيهِ بَعْدَ اعْتِقَادِ وُجُوِدهِ، إذْ كاَنَ {أَيُّ} عاقِلٍ يَتَسَارَعُ إلى أَقَلَّ مِنْهُ، وَلا يَصْرِفُ عَنْهُ كَوْنُ الطَريقِ إليه مُتَوَعِّرَاً، وَمُحْوِجَاً إلى تَرْكِ لَذَّاتِ الدُّنْيا، واحْتِمَالِ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّعَبِ هُنَا، فَإِنَّ الْمُدَّةَ في احْتِمالِ التَّعَبِ مُنْحَصِرَةٌ، والفَائِتَ فيها قَليلٌ. واللَذَّاتُ الدُنْيَوِيَّةُ مُنْصَرِمَةٌ مُنْقَضِيَةٌ، والعاقِلُ يَتَيَسَّرُ عليه تَرْكُ القَليلِ نَقْدَاً في طَلَبِ أَضْعَافِهِ نَسِيئَةً1. ولِذَلِكَ تَرَى الخَلْقَ كُلَّهُمْ في التِجَارَاتِ والصِّنَاعَاتِ، وحَتى في طَلَبِ العِلْمِ، يَحْتَمِلُونَ مِنَ الذُلِّ والخُسْرَانِ، والتَعَبِ والنَّصَبِ، ما يَعْظُمُ مُقَاسَاتُه((أي معاناته)) طَمَعَاً في حُصُولِ لَذَّةٍ لَهُمْ في المُسْتَقْبَلِ، تَزِيْدُ على ما يَفُوتُهُم في الحَالِ زيادةً مَحْدُودَةً، فكيفَ لا يَسْمَحُونَ بِتَرْكِهِ في الحالِ لِلتَوَصُّلِ إلى مَزَايا غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ ولا مَحْدُودَة ؟!! ولمْ يُخْلَقْ في الدنيا عَاقِلٌ هُوَ حَريْصٌ على طَلَبِ المالِ، كَلِفٌ بِبَذْلِ الدِينَارِ وانْتِظَارِ شَهْرٍ لِيَعْتَاضَ مِنْهُ، بَعْدَ مُضِيِّ الشهر، الإكْسِيْرَ الأَعْظَمَ2الذي يَقْلِبُ النُّحَاسَ ذَهَبَاً إِبْرِيْزَاً((أي ذهباً خالصاً))، إلَّا وَتَسْمَحُ نَفْسُهُ بِبَذْلِهِ، وإنْ كانَ ذلكَ فَوَاتاً في الحَالِ. حَتَّى أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ أَلَمَ الْجُوعِ مَثَلَاً، في مِثْلِ هَذِهِ المُدَّةِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إلى هذه النِعَمِ الجَسِيمَةِ، لَمْ يُعَدَّ عَاقلاً، ولَعَلَّ ذلك لا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ في الخَلْقِ، مع أنَّ المَوْتَ وَرَاءَ الإنْسانِ بِالْمِرْصَادِ، والذَهَبَ لا يَنْفَعُ في الآخِرِةِ. وَرُبَّمَا يَمُوتُ في الشَّهْرِ، أَوْ بَعْدَ الشَّهْرِ بِيَوْمٍ فلا يَنْتَفِعُ بالذَهَبِ. وكُلُّ ذَلِكَ ، لا يُفْتِرُ رَأْيُهُ في البَذْلِ، طَمَعَاً في هذا العِوَضِ. فَكَيْفَ يَفْتُرُ رَأْيُ العاقلِ في مُقَاسَاةِ الشَّهَوَاتِ، في أيامِ العُمُرِ وأقْصَاها مائةُ سَنَةٍ، والعِوَضُ الحاصِلُ عنها سعادةٌ لا آخِرَ لها؟ ولَكِنَّ فُتُورَ الخَلْقِ عن سُلوكِ طَريقِ السعادةِ لِضَعْفِ إيْمانِهِمْ باليَومِ الآخِرِ، وإلا فالعَقْلُ الناقِصُ قاضٍ بالتَّشْمِيرِ لسلوكِ طريقِ السعادةِ فضلاً عن {العقل}الكاملِ.