ميزان العمل-٣

ميزان العمل-٣

فَأَنْتَ الآنَ أيُّها المُسْتَرْشِدُ، بعد أن عَرَفْتَ هذه المعتقداتِ، لا يخْلُو حالُكَ في اعتقادِ الفرقَةِ الضَالَّةِ عَنْ أرْبَعَةِ أقْسَامٍ: إما أن تكونَ قاطعاﹰ ببطلانه، أو ظاناﹰ لبطلانه، أو ظاناﹰ لصحته ظناﹰ غالباﹰ، ومُجَوِّزَاﹰ لبطلانِهِ بطريقِ الإمكانِ البعيدِ، أو قاطعاﹰ بصحَّتِهِ.

وكيف ما كنْتَ فعقلُكَ يوجِبُ عليك الاشتغالَ بالعلمِ والعملِ ،والإعراضَ عن ملاذِّ الدنيا، إن سَلِمَ عليك عقلُك، وصَحَّتْ خِبْرَتُكَ. وذلك{أي سلامة عقلك و صحة خبرتك} لا يخفى إن كنت قاطعاﹰببطلانه{أي بُطْلانِ اعتقادِ الفرقةِ الضالةِ}.

وإن كنتَ تظنُّ بطلانَهُ ظنَّاﹰ غالباﹰ، تَقَاضَاكَ عقلُك التشميرَ في طَلَبِه، كما يتقاضى العقلُ تَجَشُّمَ المصاعِبِ في رُكوبِ البحرِ، لطلبِ الربْحِ، وفي تَعَلُّمِ العلمِ في أولِّ الشبابِ، لطلبِ الرياسةِ عند من يطلبها، وفي نيلِ الوزارِة أو بابٍ من أبواب الكرامةِ بمقاساةِ مُقَدَّمَاتِها. وعواقُبُ تلكَ الأمورِ مظنونةٌ، وليستْ مقطوعاً بها، بل إذا غَلَبَ على ظَنِّ الحريصِ على الدُنيا أن الكيمياءَ له وُجُودٌ، ويُحْتَمَلُ عندَهُ عَدَمُها، وعَلِمَ أنَّ تَعَبَ شَهْرٍ يوصِلُهُ إليها- إنْ كانَ لها وُجودٌ- ثم يَتَنَعَّمُ بها بَقِيَّةَ عُمرِهِ الذي يمكنُ أن يكونَ أقَلَّ من شَهْرٍ، وأنْ يكونَ كثيراﹰ؛ تقاضَاهُ عقْله أنْ يَحْتَمِلَ التَّعَبَ في ذلك الشهرِ ويَسْتَحْقِرَهُ(وإن كانَ مَعلوماﹰ وعاجِلاﹰ) بالإضافةِ إلى ما يَظُنُّهُ (وإن كانَ آجلاﹰ ولم يكنْ مَقْطوعاﹰ به).

وإن كنتَ تظنُّ صَحَّتَهُ ظَنَّاﹰ غالباﹰ، ولكنْ بَقِيَ مِنْ نفسِكَ تجْويزُ صَدْقِ الأنبياءِ والأولياءِ وجماهيرِ العلماءِ، ولو على بُعْدٍ((أي على وجه بعيد و غير تام))، فعقْلُكَ أيضاﹰ يَتَقَاضَاكَ سلوكَ طريقِ الأمْنِ، واجتنابَ مثْلِ هذا الخَطَرِ الغائِلِ((أي المُهْلك)). فإنَّكَ لو كنْتَ في جِوارِ مَلِكٍ وأمكنَكَ أنْ تَتَعاطَى في واحدٍ من مَحَارِمِهِ مَثَلاﹰ عَمَلاﹰ من الأعمالِ، تَظُنُّ ظَنَّاﹰ غالبَاﹰ أنْ يَقَعَ منْهُ مَوْقِعَ الرِّضَا، فيعطيكَ عليه خُلْعَةً وديناراﹰ، ويَحْتَمِلُ احتمالاﹰ على خِلافِ الظَنِّ الغَالِبِ أنَّه يَقَعُ منْه مَوْقِعَ السَّخَطِ، فَيُنَكِّلَ بِكَ ويفْضَحَكَ ،ويُديْمَ عقُوبَتَكَ طُوْلَ عُمرِكَ، أشارَ عليكَ عقْلُكَ بأنَّ الصوابَ أنْ لا تَقْتَحِمَ هذا الخَطَرَ، فإنَّكَ إنْ فَعَلْتَ وأَصَبْتَ، فَمِزْيَتُهُ دينارٌ لا يَطُولُ بقاؤُهُ مَعَكَ، وإن أخْطَأْتَ فَنَكَالُهُ عظيمٌ، يبقى مَعَكَ طول عمرِكَ، ليسَ تَفِي ثَمَرَةُ صوابِه بغَائِلَةِ خَطَئِهِ. ولذلكَ إذا وجدْتَ طعاماﹰ وأخْبَرَكَ جماعةٌ بأنه مَسْمُومٌ، أو شخصٌ واحدٌ- حالُه دونَ حالِ نبيٍّ واحدٍ، فضلاﹰعَنْ أنْ يَقْدِرَ على التأييدِ بالمُعْجِزَةِ- وغَلَبَ على ظَنِّكَ كَذِبُهُ، كما غَلَبَ على ظنِّكَ الآنَ كَذِبُ الأنبياءِ كلِّهم، ولكنْ جَوَّزْتَ مع ذلك صِدْقَهُ وعَلِمْتَ أَنَّهُ ليس في أكْلِهِ إلا التَلَذُّذُ بِطَعْمِهِ وحَلاوَتِهِ وَقْتَ الذَّوْقِ، وإنْ كان مَسْمُوماﹰ ففيهِ الهلاكُ، فعقلُكَ أيضاﹰ يُشيرُ عليكَ باجتنابِ الخَطَرِ ،إنْ كنْتَ من زمرةِ العقَلاءِ. ولهذا قالَ عليٌّ رضي اﷲ تعالى عنه لمنْ كانَ يُشَاغِبُهُ ويماريه في أمرِ الآخرَةِ:

“إن كانَ الأمرُ على ما زعمْتَ تَخَلَّصْنَا جَميعاﹰ. وإنْ كَانَ الأَمْرُ كما قُلْتُ، فقدْ هَلَكْتَ وَنَجَوْتُ”.

ولا ينْبغي أنْ تَظُنَّ أنَّ هذا تَشْكيكٌ مِنْهُ في اليومِ الآخرِ ولكنَّهُ زَجْرٌ على حَدِّ جَهْلِ المُخَاطَبِ القَاصِرِ عن مَعْرِفَةِ ذلكَ بطريقِ البُرْهَانِ. وهو الذي جَرَّأَنَا على سُلوكِ هذا المنهاجِ لِيَسْهُلَ تَأَمُّلُهُ على أهْلِ البَطَالَةِ والتَقْصِيرِ في الطاعةِ ﷲِ تعالى. 

وقد تَبَيَّنَ على القَطْعِ أنَّ العظيمَ الهائلَ إن لم يكنْ معلوماﹰبالاحتمالِ يَتَقَدَّمُ على اليقينِ الْمُسْتَحْقَرِ، لأنَّكوْنَ الشيءِ مُسْتَحْقَراﹰ أو عَظِيماﹰ هو بالإضافة((أي هو أمر نِسْبيٌّ كما نقول في أيامنا هذه)). فَلْتَنْظُرْ إلى مُنْتَهَى العُمْرِ وما يَصْفُو مِنَ الدنْيَا للمُتْرَفِينَ، وتَسِرْ إلى ما اعْتَقَدَهُ الفِرَقُ الثلاثُ من كمال السعادةِ الأُخْرَوِيَّةِ ودوامِها، وتعرفْ بالبديهةِ استحقارِ ما تُرِكَ من الدنيا في عظيمِ((أي في جانب القدر العظيم الذي يعتاض به عنها في الآخرة)) ما يُعْتاضُ عنها بالإضافةِ إليها.

وإن كنتَ في الحالةِ الرابعِة، وهي اعتقادُ صحةِ مذهبِ الفرقةِ الرابعةِ، فنخاطِبُكَ على حَدِّ جهلِكَ وقصورِكَ، بوجهين:

١- أحدهما:  أنَّكَ لم تعتقدْ هذا المعتقدَ ببرهانٍ حقيقيٍ ضروريٍ، لا يُمْكِنُ الغَلَطُ فيه حتى يُقالَ: تَنَبَّهْتَ لنوعٍ من الدليلِ، غَفِلَ عنه الأنبياءُ والأولياءُ والحكماءُ وكافَّةُ العقلاءِ. فإنَّ الغلطَ إذا تَطَرَّدَ لهؤلاء، مع كَثْرَتِهِم وغزارةِ علومِهِم، وطُولِ نظرهِم، وكَثْرَةِ مُعْجِزَاتِ أنْبِيائِهم، فلماذا تَأْمَنُ الغَلَطَ في اعتقادِك، وما الذي عَصَمَكَ؟ وأَقَلُّ درجاتِكَ أنْ يَجُوزَ الغلطُ على نَفْسِكَ. وإنِ احْتُمِلَ عندكَ صِدْقُ الجماهيرِ وغَلَطُكَ، التحقْتَ بالحالةِ الثالثةِ.

وإنْ لمْ تَتَّسِعْ نفسُكَ لهذا التجْويزِ حتى زَعَمْتَ أَنَّكَ عَرَفْتَ بُطْلانَ اعتقادِ الجماهيرِ واستحالةَ كونِ النفسِ جَوْهراﹰ باقياﹰ بعدَ الموتِ ،أو مُعَادَاﹰ بِطريقِ البَعْثِ والنُّشُورِ، كما عرفْتَ أنَّ الاثنينِ أكثرُ من الواحد، وأنَّ السوادَ والبياضَ لا يجتمعانِ ،فهذا الآن من سِوء المِزاجِ وركاكةِ العقْلِ. ويَبْعُدُ مثلُ هذا الأحمقِ عن قُبولِ العلاجِ، ولِمِثْلِ هذا قال اﷲ تعالى فيهم ” أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ “

٢- والوجه الثاني: أنَّ هذهِ الفِرْقَةَ وإنْ أنكروا السعادةَ الأخرويةَ، فلم ينكروا السعادةَ الدنيويةَ. وأعلىالسعاداتِ الدنيويةِ العِزَّةُ والكرامةُ، والمكانةُ والقدرةُ، والسلامةُ من الغمومِ والهمومِ، ودوامُ الراحةِ والسرورِ. وهذا أيضاﹰ لا يفوز به الإنسانُ إلا بالعلمِ والعملْ.

أما العلمُ ، فليس يخفى دوام العزِّ به؛ إذ لا يَقْبَلُ العَزْلَ و الإبْطَالَ، بِعَزْلِ الوُلاة و إِبْطَالِهم.((يعني أن لذته ذائمة لا يملكُ بشرٌ أن يَعْزِلَها كما يَعزلُ الولاةَ عن مناصبهم فَيُنهي لَذَّتَهُمْ بها ))، ولا يَخْفَى لَذَّةُ العالِمِ في عِلْمِهِ، وفيما يَنْكَشِفُ له في كُلِّ لحظةٍ من مُشْكلاتِ الأمورِ، لا سيما إذا كانَ في مَلَكوتِ السمواتِ والأرضِ، والأمورِ الإلهيةِ. وهذا لا يعرِفُهُ من لم يَذُقْ لذةَ انْكشافِ المشكلاتِ. ثم إنَّ اللذَّةَ لاغايةَ لها، لأن العلومَ لا غايةَ لها، ولا مزاحمةَ فيها، لأنَّ المعلوماتِ تتسعُ للطلابِ وإنْ كَثُرُوا، بَلْ اسْتِئْنَاسُ العالِمِ يزيدُ بكثرةِ شركائه، إذا كانَ يقصدُ ذاتَ العلمِ، لا حطامَ الدنيا ورئَاستها، فإن الدنيا هي التي تضيقُ بالمزاحمةِ ،بل يزدادُ سَّعَةً بكثرةِ الطُلَّابِ. ثم مع أنها أوفى اللذات لِمَنْ أَنِسَبها ، فهي أَدْوَمُهَا، إذِ المُنْعِمُ بها عَليهِ هوَ اﷲُ وملائِكَتُهُ، ولكنْ عند انكبابِهِ على الطَلَبِ وتَجَرُّدِهِ لَهُ. ولذلك لا تَرى جماعَةً من الرُؤَساءِ والوُلاةِ ،إلا وهمْ في خوفِ العزل يَتَشَوَّقُونَ أن يكونَ عِزُّهُم كَعِزِّ العُلَمَاءِ.

وأما العملُ فلسْنا نَعْنِي بِهِ إلا رِياضَةَ الشَّهَواتِ النَفْسَانِيَّةِ، وضَبْطَ الغضبِ، وكَسْرَ هذه الصفاتِ، لتصيرَ مذعنةً للعقلِ، غيرَ مستوليةٍ عليه ،ومُسْتَسْخَرَةٍ لهُ1في تَرْتِيبِ الحِيَلِ الموصلةِ إلى قضاءِ الأوْطَارِ. فإنَّ مَنْ قَهَرَ شهواتِهِ، فهو الحرُّ على التحقيق ،بل هو المَلِكُ. ولذلك قال بعضُ الزُّهَّادِ لبعضِ الملوكِ: “مُلْكي أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِكَ”، فقال كيفَ: قال: “منْ أنْتَ عَبْدُهُ عَبْدِي“، وأرادَ به أنه عَبْدُ شهواتِه، وشَهَوَاتُه صارتْ مقهورةً له. فعبدُ الشهوات، العاجزُ عن كسرِها وقهرِها، رقيقٌ((أي مملوكٌ)) وأسيرٌ بالطبعِ، لا يزالُ في عَناءٍ دائمٍ وتعبٍ متواترٍ، إنْ قَضَى وَطَرَهُ يوماﹰ عَجِزَ عنْهُ أيَّاماﹰ. ثم لا يخلو في قَضَائِهَا عن أَخْطَارٍ، وعَلائِقَ ومَشَاقَّ، يُضْطَّرُّ إلى تَقَلُّدِهَا. فتقليلُ الشهواتِ تَقْلِيْلٌ لأسْبَابِ الغُمومِ، ولا سبيلَ إلى إمَاطَتِها إلا بالرِياضةِ والمُجَاهَدَةِ، وهو المرادُ بالعملِ. فإذاً العالِمُ العامِلُ أحسنُ الناسِ حالاﹰ، عندَ من رأى السعادةَ مقصورةً على الدنيا. فإنَّ الدنيا ليستْ تصفو لأحدٍ، وليسَ يفي جَدْوَاهَا بِمَشَاقِّها. فالمُمْعِنُ في اتباعِ الشهواتِ، والمُعْرِضُ عن النَّظَرِ في المعقُولاتِ، شَقِيٌّ في الدنيا باتِّفَاقٍ((أي باتفاق الفرق الأربعِ)) ، وشقيٌّ في الآخِرَةِ عند الفِرَقِ الثلاث، إلا عِنْدَ شِرْذِمَةٍ من الحمقى، لا يُؤْبَهُ لهم، ولا يُعْبَأُ بهم، ولا يُعَدُّونَ في جُمْلَةِ العُقَلاء رَأْسَاﹰ. فقدْ تَبَيَّنَ أنَّ الاستعدادَ للآخرةِ بالعلمِ والعملِ ضَرُوْرِيٌّ في العقلِ، وأنَّ الْمُقَصِّرَ فيهِ جاهِلٌ. 

فإن قلتَ: فما بالُ أكثرِ الناسِ مقصرينَ فيه وهمْ مؤمنونَ بالآخرة؟ فاعلمْ أنَّ سببَ ذلكَ الغفلةُ عن التفكيرِ في هذه الأمورِ التي ذكرناها فإن تلكَ الغفلةَ مُطَّرِدَةٌ عليهم، مُسْتَغْرِقَةٌ لأوقاتهم، لا يَنْتَهُونَ عنها ما دامَتِ الشهواتُ متواليةً، وهي كذلك. وإنما المُنَبِّهُ عليها واعظٌ زَكِيُ((أي عَطِرُ السيرة)) السيرةِ، وقد خَلَتِ البلادُ مِنْهُ ، وإِنْ فُرِضَ على نُدورٍ((أي فُرِضَ وجودُهُ مع نُدْرَةٍ وقلّةٍ)) لم يُلْتَفَتْ إليهِ، وإنْ الْتُفِتَ إليه وَوَقَعَ الإحساسُ به في الحالِ، وحَسُنَ العزمُ على التَجَرُّدِ للطاعةِ في الاستقبال((أي في المستقبل من الزمان))، هَجَمَتْ عَقِبَ ذلك شهوةٌ من الشهواتِ وأزالتْ أثَرَ التنبيهِ، وأعادتْ حِجابَ الغَفْلَةِ، وعادَ العاقِلُ لما نُهِيَ عنه. ولا يزالُ هكذا شأنُ كُلِّ واحِدٍ إلى الموتِ ! وعند ذلك لا يبْقَى لهُ إلا التَحَسُّرَ بَعْدَ الفَوْتِ، ولا يُغْنِي ذلك عَنْهُ شَيْئَاﹰ فَنَعُوذُ باﷲِ مِنَ الغَفْلَةِ، فإنها مَنْشَأُ كُلِّ شَقَاوَةٍ. 

تصفح :<< ميزان العمل- ٢ميزان العمل-٤ >>
  1. أي مُسَخَّرَةٍ له []
0 0 أصوات
Article Rating
اشترك
Notify of

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
0
نحب سماع رأيكم ، فأفيدونا من فضلكمx
()
x