يَقْصِدُ هذا المكتوبُ أنْ يُبَيِّنَ المسائلَ التاليةَ:
١– إنَّ النفاقَ مرضٌ نفسيٌ يصيبُ القلبَ من الجسدِ و يُصيبُ الإيمانَ من القلبِ فيُفْسِدُهُ و يَمْضِي في خَرابِه إذا لم يُتَدارَك برحمةٍ إلهيةٍ حتى لا يَبْقَى في المرءِ بَقِيِّةٌ تُرْجى فيكونُ كالكُفَّارِ أو أَشَدَّ عذاباً.
٢– إن أَهَمَّ ما يُمَيِّزُ المَرَضَ أنَّ المريضَ لا يَشعُرُ به و لا يعرِفُ بوجودِهِ. أيْ أنَّ المنافقَ لا يعرفُ أنه منافقٌ ولا يُقِرُّ بِهِ و إذا سَمِعَ قرآناً أو قولاً يَذمُّ المنافقينَ ظَنَّ أنَّهُ يتكلمُ عن غيرِهِ أوْ غَشّى على ذلك بتأويلٍ غريبٍ يَدْفَعُ عنه تلكَ التُّهْمَةَ وذلكَ الهجاءَ.
٣– إن للمرضِ درجاتٍ أدناها التَشكُّكُ في ما صدَّق المرءُ فيهِ أصْلاً بقلبِه و لسانِه ، و أعْلاهَا إضمارُ الكفرِ بما يقولُهُ الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ و التحَيُّرُ في أمْرِهِ معَ لزومِ الاسلامِ خَوفاً من عاقبةٍ دنيويةٍ و طَمَعَاً بمكاسبَ مُغْرِيَةٍ “إنْ ظهر هذا النبيُ على أعدائه” !
وهذه الدرجةُ العُليا –مع اتِّفاقِها في النوعِ مع الدرجاتِ الأدْنَى– هي التي تُشْتَهَرُ بيننا على أنَّها مَعْنى النِفاقِ.
٤– بسببٍ من ذلك لا يستطيعُ المنافقُ الخروجَ من الاسلامِ جملةً واحدةً لأن هذا هو تماماً ما يُفَرِّقُ بينه وبين الكُفْرِ و الشِّرْكِ البواح. فالكافر أشدُّ عزيمةً و أصدقُ لهجةً وأوْفَى عَهْدَاً من المنافقِ (و هذا واضحٌ من حديث القرآن عن الكافرين و حديثه عن المنافقين). و هُوَ أَقْدَرُ على التعبيرِ عن كفره لأنَّهُ لا يُطِيْقُ تَغْيِيْرَ حاله و الرجوعَ عن ديْنِهِ ودينِ آبائِهِ ولا يُحِبُّ الاسلامَ و قد نَشَأ و تَرَعْرَعَ على بُغْضِهِ ، ولا تَحْمِلُهُ نفسُه على الانصياعِ له بِفَرْضِ أنْ يكونَ خَيْرَاً له، لأنَّهُ يَأْبَى ذلكَ و لا يَتَمَلَّقُ من يَكْرَه ، بلِ الموتُ أَحَبُّ إليه من ذلكَ. و هذا تفسيرُ وجودِ الكثيرِ من الصفاتِ النفسيةِ العاليةِ عندَ بعضِ الكُفَّارِ والمشركينَ من العربِ والتي اجتمعتْ عندهم مع الكفرِ والعنادِ، كالصدْقِ في الحديثِ و تجنُّبِ الكَذِبِ و كالوفاءِ بالعهْدِ و حفظِ الذِّمَمِ والجِوارِ و المَعَرَّةِ من نقْضِ العهودِ و ما إلى ذلكَ. ولا رَيْبَ أنَّ هذا موجودٌ بعضَ الوجودِ عند الكافرينَ – وتراهُ اليومَ في كُفَّارِ الدنيا أيضاً– وليسَ عامَّاً أو مُطْلَقَاً و لكنَّ الواضحَ أنَّهُ في المشركينَ أكْثَرُ وجوداً مِنْهُ في المنافقينَ.
أما المنافقونَ فليسَ لديهم هذهِ القوةُ بل هم يؤمنون في البدايةِ ابتغاءَ نيلِ الخيرِ الذي يَظُنُّونَ أنه في هذا الدينِ – والخيرُ هنا دُنْيَوي في الأغلبِ بالنسبة لهم-. ثم إذا لاحِ لهم أن الأمرَ ليس كما يبدو و أنَّ الثَمَنَ الذي يُطْلَبُ منهم أن يَدفَعوه في هذه الدنيا مِنْ بَذْلٍ للأنْفُسِ و الأموالِ والثمراتِ و بعضِ الجُهْدِ أكبرُ مما تجودُ به نُفوسُهُم مالوا إلى الكُفْرِ، و لكنهم يظَلُّونَ أَضْعَفَ مِنْ أنْ يُصَرِّحُوا به لما يَرَوْنَ من حالِ المؤمنينَ حولَهُم و لما يخافونَهُ من التَعْيِيْرِ بسوءِ الرأيِ و ضلالَتِه و لما يرجونَهُ مِنْ أَنْ يكونوا مخطئينَ في ظَنِّهِمْ في الدينِ. ثم تأتي عليهم أحوالٌ جيدةٌ –بنصرِ المسلمينَ مثلاً– فيَسْتَبْشِرُونَ بأنهم قَدْ سَلَكُوا طريقاً مُوَفَّقَاً و يُظهرونَ للمسلمينَ أنَّهم منهمْ–و قد يكونونَ صادقينَ للحظاتٍ في تلكَ المرحلةِ– ثم تأتي بأسَاءُ أو ضَرَّاءُ فيعودونَ كُفَّاراً و في الأغلب يزدادونَ كفراً.
و هذا ما قاله الله تعالى عنهم بأصدق عبارة:
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا ٣٧ بَشِّرِ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا ٣٨ ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا ٣٩ .
فأنتَ ترى تَكْرَارَ و تَتَابُع الايمانِ و الكفْرَ ثُمَّ أَعْقَبَ ذلكَ بِذِكْرِ المنافقينَ وأنَّ لهمْ عذاباً أليماً.
٥– و حالةُ الإبسال (أي الحَبْسِ) في الاسلامِ هذه هي عذابٌ شديدٌ في الدنْيَا و قدْ رأينا آياتِ سورةِ البقرةِ كيف تَصِفُ حَالَهُم بِأَبْلَغِ عِبَارَةٍ و أَوْضَحِ تَصْويرٍ فلْتُراجَعْ في موضِعِهَا. و لذلك وَصَفَتْهُمْ آياتٌ كثيرةٌ بأنهم مُعَذَّبُون ، وسيأتي بيانُها تالياً.
٦–للنفاقِ آياتٌ و له خصالٌ. و قد ذَكَرَ الحديثُ الشريفُ آياتِه وَعَدَّدَ خِصَالَه و سوفَ نُبَيِّنُ ذلك بالتفصيلِ بَعْدَ ذِكْرِ ما وَرَدَ من القرآنِ فيهم. ولكنَّ ما يعنيني هنا هو أنْ أُشَدِّدَ على أنَّ النفاقَ درجاتٌ و أنه لا يخلو منه مسلمٌ تقريباً على وجهِ الأرضِ.
لنتأملْ معاً الآياتِ القرانيةَ الباقيةَ التي نَزَلَتْ في وصفِ المنافقينَ (والمنافقاتِ) أو في تِبْيانِ أوصافِهِم الباطِنَةِ أو في تَشْخِيصِ أحوالهمْ ثم التحذيرِ منهم ولْنُفْرِدْ الآياتِ في طبقاتٍ(( أي في مجموعاتٍ و كلمةُ “طَبْقَة” في العربية تعني مجموعةً يتشابه أعضاؤها أما ملمح التدرُّج العمودي فهو حديث نسبياً و يتوافق مع كلمة Layer الانكليزية )):
الطبقة الأولى (ما يحدث في نفوس المنافقين)
مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ ١٧ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ ١٨ أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩ يَكَادُ ٱلۡبَرۡقُ يَخۡطَفُ أَبۡصَٰرَهُمۡۖ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوۡاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظۡلَمَ عَلَيۡهِمۡ قَامُواْۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٢٠ البقرة.
و قد مضى القولُ في الجزءِ الأولِ بشرحِ هذه الآياتِ و الأقوالِ فيها و بَيَّنَتْ لنا حَالَهُمْ وَتَرَدُّدَهُمْ واضطرابَهُمْ فيمابَيْنَ التصديقِ و التكذيبِ و الايمانِ و الكفرِ.
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ٦٤ التوبة.
قال مجاهد: يقولون القول بينهم، ثم يقولون: عسى الله ألا يفشي علينا سرنا هذا.
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة: 8] وقال في هذه الآية: ( قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون ) أي: إن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به، ويبين له أمركم كما قال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ إلى قوله: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد: 29، 30] ؛ ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة “الفاضحة”، فاضحة المنافقين.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ٦٥ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ٦٦
قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القُرَظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قُرّاءنا هؤلاء إلا أَرْغَبَنَا بُطُونَا، وأَكْذَبَنا أَلْسِنَةً، وأَجْبَنَنَا عند اللقاءِ. فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) إلى قوله: ( مجرمين ) وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس ما رأيت مثل قُرائنا هؤلاء، أرغبَ بطونا، ولا أكذبَ ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد: كذبتَ، ولكنك منافق. لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونـزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنكُبُه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) .
وقد رواه الليث، عن هشام بن سعد، بنحو من هذا
وقال ابن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وَديعة بن ثابت، أخو بني أمية بن زيد، من بني عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: مُخَشّن بن حُميّر يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جِلادَ بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مُقَرّنين في الحبال، إرجافا وترهيبا للمؤمنين، فقال مُخَشّن بن حُمَيّر: والله لوددتُ أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وإما نَنْفَلتُ أن ينـزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني -لعمار بن ياسر: “أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا”. فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته، فجعل يقول وهو آخذ بحَقَبها: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، [فأنـزل الله، عز وجل: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ) ] فقال مُخَشّن بن حُمّير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي. فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مُخَشّن بن حُمّير، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر.
وقال قتادة: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ) قال: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وركب من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها. هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فقال: “عَليَّ بهؤلاء النفر”. فدعاهم، فقال: “قلتم كذا وكذا”. فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب.
وقال عِكْرِمة في تفسير هذه الآية: كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: اللهم، إني أسمع آية أنا أعنَى بها، تقشعر منها الجلود، وتجيب منها القلوب، اللهم، فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسّلت، أنا كفنت، أنا دفنت، قال: فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره((أي ما أحد من شهداء المسلمين إلا وُجدت جثته فكُفُّنَتْ و دُفنت إلا هو)).
وقوله: ( لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) أي: بهذا المقال الذي استهزأتم به ( إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً ) أي: لا يُعْفى عن جميعكم، ولا بد من عذاب بعضكم، ( بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) أي: مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.
فأنتمْ تَرَوْنَ هنا شَخْصِيَّاتٍ قَلِقَةً غيرَ مستقرةٍ، فيها شيءٌ من إيمانٍ لقولهم: عسى أن لا يُنَزِّلَ اللهُ تعالى آيةً فيها ذكْرُ سِرِّنَا !! و قد تَتداركُ بعضَهم رحمةُ اللهِ تعالى فيتوبَ و يعلمَ أنَّ هذا الذي تَشَكَّكَ فيه طويلاً هو الحقُّ من رَبِّهِ فَيَصْدُقَهُ الشَّهَادَةَ، كما في قِصَّةِ الرجلين السابقين اللذين اسْتُشْهِدَا في اليمامةِ.
الطبقة الثانية: في أوصافهم و أعمالهم (سلوكهم) ومنها آياتٌ فاصلة في ذكر صِفَتِهِمْ حتى تَعْرِفَهُمْ
وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ ١٢ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ ١٣ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ ١٤ ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ
فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ ١٥ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ ١٦ البقرة.
في مَلْمَحٍ أساسي في هذه الآياتِ نَلْمَحُ ما ذكرناه وَوَكَّدْنا((هي أصح و أفصح من أكدنا الشائعة)) عليه من أنَّ المنافقَ لا يشعرُ بنفاقِهِ خلافاً للشائع و هو قوله تعالى: وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ. وَلَكِنْ لايَعْلَمُونَ.
و أُحِبُّ أنْ أَذْكُرَ شَيْئَاً ههنا يَلُوحُ لي في الآياتِ و هو مُتَّسق مع سِياقِها و مع كل ما ذكرناهُ عن هذا المَرَضِ وهو تفسيرُ قوله تعالى :
و إذا لَقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مُسْتَهزئون.
فالكثيرُ منا يقرأُ هذه الآياتِ ،في ضَوْءِ الفَهْم المُسبق الذي يقولُ بأن المنافقينَ يُضمرونَ كُفْراً صريحاً –هم على يقين منه–و يُظهرونَ إيماناً –هم منه براءٌ مَحْضٌ، فَيَفْهَمُ منها أنهمْ مع شياطينهم على الدوامِ و أنهم يكذبونَ على المؤمنينَ ، و لكن القراءةَ الأقربَ لنفسيةِ المنافقينَ أنهم ليسوا يعرفونَ مع أيِّ جانبٍ هم ، فيقولونَ للمؤمنينَ آمَنَّا –عسى أنْ ينْفَعَهُمْ ذلك إن كان له فائدةٌ– ويقولونَ لشياطينِهم إنَّا معكم اتِّقَاءً لسخريةِ أولاءِ منهمْ و اتِّقاءً لشَرِّهِمْ أيضاً فيما لو انْقَلَبَ الدهرُ عليهم. والشياطينُ ههنا إنْسٌ من جِنْسِهِمْ، إما أنهم لم يؤمنوا أصلاً أو أنَّهم من كبارِ المنافقين، الذين قد يَنْطَبِقُ عليهم الوصفُ المشهورُ عندَنا.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمۡ فِئَةٗ فَٱثۡبُتُواْ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٤٥ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ وَٱصۡبِرُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٤٦ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرٗا وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ ٤٧ الأنفال
هذه الآياتُ نزلتْ في وصفِ غزوة بدرٍ و تبدأُ بوصْفِ المشركين وخروجهم رِئَاءَ الناس وَبَطَرَاً ثم تُعْقِبُ بقولِ بعضِ المنافقين(ولاحظوا أنَّ هؤلاءِ من أهلِ مكةَ في كل الأقوالِ):
قال ابن جُرَيْج في قوله: ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) هم قوم كانوا من المنافقين بمكة، قالوه يوم بدر.
وقال عامر الشعبي: كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: ( غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ )
وقال مجاهد في قوله، عز وجل: ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ ) قال: فئة من قريش: [أبو] قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: ( غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ ) حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم.
وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار، سواء.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، عن الحسن في هذه الآية، قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا منافقين -قال معمر: وقال بعضهم: هم قوم كانوا أقروا بالإسلام، وهم بمكة فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: ( غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ )
وقوله: ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) أي: يعتمد على جنابه، ( فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ) أي: لا يُضام من التجأ إليه، فإن الله عزيز منيع الجناب، عظيم السلطان، حكيم في أفعاله، لا يضعها إلا في مواضعها، فينصر من يستحق النصر، ويخذل من هو أهل لذلك.
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ٦٧ التوبة
و ههنا نقطةٌ فاصلةٌ ألا و هي المقابلةُ بين الايمانِ والنفاقِ و بين صفاتِ المؤمنينَ و كيف تضادُّها صفاتُ المنافقين ، وقد تعلِّمْنا و تعوَّدْنا أن نقارنَ ونقابلَ بين الايمانِ والكفرِ وكذلكَ يَفْعَلُ القرآنُ في مواضِعَ كثيرةٍ (وهو سبب وصف القرآن بالمثاني على أشهر الأقوال) و الحقيقة أن كلتا المقابلتينِ صحيحٌ و لكنَّ كلاً منهما من وجهٍ غيرِ وجهِ الأُخرى.
فالكفرُ والإيمانُ ضِدَّانِ إذا كان موضُوعُهُما الإيمانَ باللهِ تعالى و صفاتِه على الوجهِ الكامل. لذا لا يَصِحُّ أحدُهما في وجودِ الآخَر و منه قوله تعالى:
فمن يكفرْ بالطاغوت ويؤمنْ بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ٥٦ البقرة.
وقوله في الآية الأخرى:
ألم ترَ إلي الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنونَ بالجِبْتِ والطاغوتِ ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ٥١ النساء
فهناك من يؤمن بالله و هناك من يكفره (أي يستره) وهناك من يؤمن بالطاغوت و يكفر بالله ، ولكنَّ الطرفينِ كلاهُما مؤمنانِ بشيءٍ ، و إذا كان الكافرُ عنيداً ، لم يُزَعْزِعْه عن إيمانه بجبته و أصنامه شيءٌسوى اللهِ، و مع أنَّ الايمانَ بصنمٍ أو إلهٍ سوى اللهِ ليسَ يقومُ لمقامِ الايمان باللهِ وشَتَّانَ ما بينَ الاثنينِ إلا أن القلبينِ مؤمنانِ (إذا فهمنا كلمة الايمانِ هنا بما هي مَلَكَةٌ تشير إلى المقدرةِ على التصديقِ و الالتزام و الصبر على الأذى في سبيل ما يُؤمَنُ به).
و مع أن الكافرَ في القرآن كلمةٌ تُطْلَقُ على من عَرَفَ الحقَّ ثم جَحَدَهُ أو لم يَشَأْ أَصْلاً أنْ يُفَكِّرَ فيه ليهتديَ إليه بَعْدَ أنْ عُرِضَ عليه ، إلا أن الكافرَ على العمومِ يبقى مجاهراً على الأقل بكفرهِ لايَرْضَى أنْ يَكُونَ مع الحائرينَ والشَّاكِّينَ، فعسى أن يهديَ اللهُ منهم مَنْ كانَ شريفَ النفسِ، صادقَ الوعدِ، كما هَدَى عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ،وخالدَ بنَ الوليدِ، و أمثالُهُما كثيرٌ جداً من مشركي قريشٍ و العربِ.
أما النفاقُ فهو جرثومةٌ تصيبُ القلبَ فتجعلُهُ غيرَ مُتَهِيِّئٍ و أحياناً غيرَ قابلٍ للايمانِ بشيءٍ أصْلاً، و بذلكَ تَقْدَحُ في كماله و في أصْلِهِ أحياناً. وبذلك يستقيمُ لنا أن نَقُولَ: إنَّ النفاقَ هو ضِدُّ مُطْلَقِ الايمانِ، والله تعالى أعلم
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٩٧ التوبة.
النكتةُ ههنا كما قال كل المفسرين : غِلْظَةُ طباعهم وجفاؤُهُم ، لسُكْنَاهُمُ الباديةَ ، وبُعْدِهِمْ عن الحواضِرِ و هذا شأنٌ معروفٌ. ولكنْ ما الرابطُ بين هذه الطباعِ وبينَ النفاقِ ؟ ، و قد يتصور أحدنا اليومَ أن النفاق –بما هو مفهوم عنه من معنى المداهنة و ما إليها- أقرب إلى طباع أهل المدن والحضارة لما يَعْلَقُ بهم مِنْ تَرَفِ المَدَنِيَّةِ و خَبَثِها، و أنَّ أهلَ الباديةِ الأقحاحَ الصرحاءَ أبْعَدُ عن ذلكَ و أَنْقَى !!
فأولاً أقول : إن الحكمَ فيهم ليسَ عاماً إذ ذكرَ تعالى بعد هذه الآية قولَه :
وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ سَيُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٩٩ التوبة.
ثانياً: في التفسير و الأقوال التي ذكرها ابن جرير الطبري و تَابَعَهُ عليها المفسرون أنَّ ذلكَ لغِلْظَةِ طباعِهِم و بُعْدِهِم عن مشاهدةِ أهلِ الخيرِ ، ثم فسرَّوا “الحدودَ” في قوله “حدودَ ما أنزلَ اللهُ على رسوله” بأنها السُّنَنُ.
و فسروا ذلك بالسننِ ليستقيمَ مع قولهم :(إنهم أجْدَرُ ألا يعلموا، بسببِ بُعْدِهِم عن مُخِالَطَةِ الرسولِ و مشاهدةِ الصالحينَ من أهل الذكرِ الذين يَحْصُل بسبِبِهِمْ رِقَّةٌ في القلبِ تؤدِّي إلى الايمانِ بمعناهُ الصافي). إذْ أنَّ قراءَةَ القرآنِ وحفْظَهُ قد تَتَيَسَّرُ للبعيدِ و القريبِ و لكنَّ صُحْبَةَ الرسولِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، التي تُثْمِرُ في القلبِ فوائدَ و منافعَ لا تُحْصَى و لا تُدْرَكُ ؛ هي التي لا تَتَيَسَّرُ إلا للقريبِ، الصادقِ في قصده.
و ربما أشْكَلَ هذا الفهمُ، بأنَّ القرآن عادَ و استثْنَى قوماً من الأعرابِ، في الآية التي تَلَتْهَا ،وَوَصَفَهُمْ بالايمانِ و النَفَقَةِ في سبيل الله ،وهم هم1! مِنَ الأعرابِ أيضاً في بُعْدهم عن مشاهدةِ و مجالسةِ النبي وأصحابِه.
و الجوابُ أنَّ هذا استثناءٌ لا يُخِلُّ بالقاعدةِ بل يُوَكِّدُهَا كما هو الاستثناءُ دوماً. ذلك أن المفسرين رَوَوْا أن الآياتِ الأخيرةَ نزلتْ في بني مُقَرِّن مِنْ مُزَيْنَةَ وكانوا عَشْرَةَ وَلَدٍ، و قد يَهَبُ اللهُ البركةَ للمرءِ بلِقاءِ أهلِ الخيرِ ولوْ مَرَّةً واحدةً إذا كانَ في طباعِهِمْ من الاسْتِعْدَادِ لذلكَ ما يُؤَهِّلُهُم له. و“مِنَ” في الآيةِ للتَبْعِيْضِ، فلا يَمْنَعُ أنْ يكونوا أكثرَ أو أقَلَّ طالما أن القاعِدَةَ تَبْقَى : أنَّ الأعرابَ أشدُّ كفراً و نفاقاً. وقد تضافرتْ الآياتُ الأخْرَى لِتَصِفَ الأعرابَ بصفاتٍ شبيهةِ في مواضعَ أخرى ، فلا نُطَوِّلُ بذِكْرِها و لْيُراجِعْها مَنْ شَاءَ في مَوَاضِعِهَا.
و يعنيني هُنا أنْ أَسْتَخْلِصَ ما يُفيدنا من ذِكر الأعرابِ وما يقابِلُهُ في أيَّامِنَا هَذِهِ:
- نَلْمَحُ شَبَهاً و تَقَابُلاً في الظاهِرِ بينَ نَمَطِ حَياةِ الأَعْرَابِ و نَمَطِ سُلوكِ المنافِقِ كما يُؤْخَذُ من مثالِ اليرْبوعِ : التَنَقُّلُ، و التَرْحَالُ الدائمُ ،و اتِّباعُ مواضِعِ القَطْرِ والخَصْبِ، واستجداءُ الخيراتِ، من أهل الحَضَرِ والمَطَرِ المُجاورينَ لهم، بلْ و غزوُهُم و نَهْبُهُمْ عندَ الحاجة و تَبَيُّنِ الضعف لدى هؤلاء الأُخَر؛ أَلَيْسَ هذا ما يصْنَعُهُ المنافِقُ في بيئَتِهِ التي يَنْشَأُ فيها؟ فهو مَعَ كُلِّ ما لاحَ لهُ أَنَّهُ خَيْرٌ دُنْيَوِيٌّ ، يُصانِعُ((أي يداهن)) أَهْلَهُ كأنَّهُ منهم و ربَّمَا ظَنَّ في باطِنِهِ أَنَّهُ كذلكَ حتى إذا بدا لأوَّلِ وَهْلَةٍ أنه رُبّما خُدِعَ ، انْقَلَبَ إلى رَحْلِهِ و زَعَم أنَّهُ إنما كان يسْتَهْزِءُ بالناسِ و يَخْتَبِرُ عقْلَهُم (وهذا نَمَطٌ لاعْتذاراتِ المنافقينَ عَبْرَ القرآنِ، كلّما عوتبوا أو كوشفوا بفِعْلِهم ، من طرفٍ من الأطرافِ، وتأمَّلوا الآياتِ التي سُقْنَاهَا في هذا المقال ففيها لما ذكرنا كاشفٌ مبينٌ).
- إذا تأملنا الكلامَ السابقَ ، فإننا نَسْتَخْرِجُ منه أن النفاقَ يزيدُ في المجتمعاتِ التي لا تعتمدُ على نفسها ولا تشعُر بالاطمئنان على معاشِها الأساسيِّ و مَصْدَرِ رِزْقِهَا ، بل تميلُ إلى استجداءِ الآخرينَ ،وعندَ اللزومِ، التَسَلُّطِ عليهم. (هل يُذَكِّرُكُم هذا بشعوب تعرفونها في زمننا الحاضر ؟؟ ).
- إن غِلْظة الطباع و جفْوَة النفس وقَسَاوَتَها ليْسَت دائماً عَلَماً على الصراحةِ والبُعدِ عن المُداهنةِ والمُصانعةِ ، بل ليستْ أصلاً شيئاً محموداً ولا خُلُقَاً حميداً في الاسلام و أهله، و قد جاءَ ذَمُّهَا في مواضعَ كثيرةٍ من القرآنِ والسنةِ معروفةٍ للكافةِ، بل إنها قد ترتبط أحياناً ارتباطاً وثيقاً بالنفاق و أخَسِّ الطباع. و السِرُّ في ذلك أن الغليظَ الفظَّ إنما كانَ كذلكَ لغِلْظَةٍ في إحساسِه و إدراكِه يَصْعُب معها أنْ يُدرِكَ دقائقَ الأمورِ و لطائفَ الأخلاقِ و ما دَقَّ و خَفِيَ من أمور الايمانِ والصحبةِ والاستقامةِ والصبرِ وإيثارِ الغيرِ ، وماإلى ذلك مما لا قِبَلَ لأمثالِه بفَهْمِهِ و ذَوْقِ الحلاوَةِ فيه. وهذهِ الخصالُ التي ذكرناها هي من خصالِ المؤمنينَ حقَّاً (أو من كانوا على دَرَجِ ذلك).
- هل يكونُ المنافقُ كريماً ؟ سألتُ هذا السؤال، لما قد يَرِدُ على خاطر القارئ ، من استحضارِ أنَّ العربَ كانوا موصوفينَ بالكرمِ والايثارِ و حبِّ الغيرِ، و ما إليهِ من صفاتٍ خُلُقِيَّةٍ عُلْيَا. فأقولُ أولاً في الجواب: إنَّ مُعظَمَ العرب لِزَمَنِ الجاهليةِ ، قُبَيْلَ الاسلامِ ،كانوا من أصحابِ الحواضِرِ في أطراف الحجاز و اليمامة و نواحي العراق واليمن. وباختصارٍ؛ كان العربُ الأقحاحُ في وَسْطِ الجزيرةِ ، وكان أهلُ الحواضر في أطرافِها (كما هو الشأنُ اليومَ أيضاً).
وكان المقصودُ بالأعراب في القرآن، الذين كانوا نازلينَ حول المدينة و إلى الشرقِ منها ومن مكةَ ومنهم بنو عامرٍ وعُصَيَّةُ ورِعْلُ وذَكوانُ من بني سُلَيْمٍ وعَضَلٍ و القَارَة ! ولَيْس هذا نفياً لعمومِ الآيةِ و ما يمكنُ أن نستفيده منها ولكنهُ يشيرُ إلى فئةٍ من الأعرابِ تميزوا بالغدْرِ والخسّة وكما قالَ فيهم :
“مَرَدوا على النفاق”، وهذا كما نَعْلَمُ خلافُ المشهورِ عن أخلاق العرب بعامّة.
و أقولُ ثانياً : إنَّ الكَرَمَ كلمةٌ واسعةٌ و فيها درجاتٌ، فالكَرَمُ عموماً صفةٌ جامعةٌ لأخلاقٍ نبيلةٍ حميدةٍ و ليستْ مقصورةً على بَذْلِ المالِ فقطْ (فقد يُسمَّى هذا الأخيرُ سخاءً)، فإن كانَ المرءُ موصوفاً بالسَّخاء فقطْ فليسَ ذلك بِمُعارضٍ الوصفَ بالنفاقِ ، وإنْ كان الرجلُ موصوفاً بالكرمِ على الإطلاق (وهذا يعني أنه غيرُ لئيمٍ، صادقُ الكلمة، وَفِيٌّ بِوَعْدِهِ ، شُجَاعٌ ، شَهْمٌ ، حَلِيْمٌ) فَيَبْعُدُ في ظَنِّنَا أنْ يقتربَ من النِّفَاقِ و إنْ كانَ لا يَبْرَأُ مِنْهُ بالضرورة. و السببُ أن الكَرَمَ في صفاتِ العربِ قبلَ الاسلامِ قدْ لا يَخْلُو من الرِّيَاءِ و حُبِّ المديحِ من النَّاسِ، أمَّا في الاسْلامِ فالخُلُقُ نفسُه يَسْمو ويَرْقَى ويَصْفُو حتى يُصْبِحَ خُلُقاً عالمياً لا يَسَعُ من شَهِدَهُ إلا أنْ يُقِرَّ له وَيَخْضَعَ. و ذَلِكُمْ هو الايْمَانُ الخَالي مِنَ النِّفَاقِ.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ يَسۡتَغۡفِرۡ لَكُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوۡاْ رُءُوسَهُمۡ
وَرَأَيۡتَهُمۡ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسۡتَكۡبِرُونَ ٥ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ أَسۡتَغۡفَرۡتَ لَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ لَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ ٦ هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ ٧ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ٨ المنافقون
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ٦٠ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا ٦١ فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنٗا وَتَوۡفِيقًا ٦٢ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٦٣ وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٦٤ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥ وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا ٦٦ وَإِذٗا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٦٧ وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٦٨ النساء
هذه صفةٌ خصيصةٌ أخرى من خصائصِ المنافقينَ، وهي تأبِّيْهِمْ عن التسليمِ لما يزعمون أنهم يؤمنون به (لصاحبِ الرسالة و رسالتِه في مثالنا هنا)، و تَمَحُّلُهُمُ المعاذيرَ و التَأَوُّلاتِ البَارِدَةَ ، ليَسْلَمَ لهم القولُ بأنهم فَعَلُوا ما فعلوا ، ويَفْعَلُونَهُ ، لِخَيْرٍ أو لقَاهِرٍ من الأُمورِ، بَدَا لهم و لم يَبْدُ للهِ و لِرَسُولِهِ وهذا يُذَكِّرُنا بقَوْلِهِ تَعَالى :
وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ ١٢ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ ١٣
و أَظُنُّ أَنَّنَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْهَمَ هذه الخَصِيْصَةَ ، فإنَّ عَدُوَّ المنافقِ هو التَسْلِيمُ (و أذكِّر هنا مَرَّةً أُخْرى بأَنَّنَا نَتَحَدَّثُ عَنِ النِّفَاقِ بما هو مَرَضٌ يُصِيْبُ المُؤْمِنِينَ و لا يَشْعُرُ أَغْلَبُهُمْ بِهِ). لأن التسليمَ المحْضَ هو ثَمْرَةُ ومُقْتَضى الايمانِ الصحيحِ السليمِ. ولا يَطمَئِنُّ المنافقُ للتسليمِ ، خَشْيَةَ أن يخْسَرَ به شيئاً من أمورِ دُنياهُ ، مما كان يُعِدُّهُ و يُخَبِّئُهُ ؛ ولِسَانُ حاله يَقُولُ : أَثُمَّ إذا تَبَيَّنَ زيفُ الاسْلامِ ، مثلاً ، ذَهَبَتْ دُنْيايَ بلا عِوَضٍ ؟؟؟ .
ومن مظاهرِ فقدانِ التسليمِ الاحتكامُ إلى الطاغوتِ كما تُبَيُّنُ الآياتُ السابقةُ ، و المقصودُ بذلكَ الاحْتِكاَمُ في القَضَاءِ إلى شرْعٍ آخَرَ سوى شرعِ اللهِ ، يُعطيه ما يرغَبُ فيه من أمورِ دُنْيَاهُ ويُخَفِّفُ عنهُ ما يخشاه من خَسارَةٍ إذا سَلَّمَ بِحُكْمِ اللهِ و نبيِّهِ تَسْلِيمَاً. ولايَدْخُلُ في ما سَبَقَ مَنْ فَقَدَ الاختيارَ في مَنْ يحتكمُ إليه ،كما هو شأنُ كثيرٍ من المسلمينَ اليومَ الذين يعيشونَ في بلادِ الغربُِ.
و يمثِّلُ القرآنُ لحالِ هذا المنافقِ و أمثالِهِ تمثيلاً تصويرياً بقوله:
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ
أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ ١١
وخسارةُ الدنيا ههنا بسببِ أنه :
إما أن يَفُوتَهُ خيرٌ عميمُ في الدنيا إذا ما ظَهَرَالمؤمنون (أي عَلَتْ كلمتُهم) ، وقد فارقَهُمْ هُوَ.
أو أن يُعَذَّب هو و أمثالُه بأن يتصوروا إمكانيةَ انقلابِ الأحوالِ لصالحِ المؤمنينَ، فلا يستطيعُ أن “ينقلبَ على وجهه” و لا هو قادرٌ على التسليمِ فيبقى متردداً حائراً مُتَقَلِّبَاً بين شكٍ و شكٍ. و هذا الحالُ لِمَنْ عَرَفَهُ مِنْ أَشَدِّ العَذابِ في الدنيا و هو ما تُبَيِّنُهُ آياتُ الطَبْقَةِ الثالثة فيما يلي:
الطبقة الثالثة (في أنهم معذبون في هذه الدنيا بسبب مرض قلوبهم و في الآخرة)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ١٠١ التوبة.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون, ومن أهل مدينتكم أيضًا أمثالهم أقوامٌ منافقون.
وقوله: (مردوا على النفاق)، يقول: مرَنُوا عليه ودَرِبوا به.
ومنه: ” شيطانٌ مارد، ومَرِيد “، وهو الخبيث العاتي. ومنه قيل: ” تمرَّد فلان على ربه “، أي: عتَا، ومرنَ على معصيته واعتادها.
وقال ابن زيد في ذلك ماحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق)، قال: أقاموا عليه، لم يتوبوا كما تابَ الآخرون.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق)، أي لجُّوا فيه، وأبوْا غيرَه.
=(لا تعلمهم)، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم، يا محمد، أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة, ولكنا نحن نعلمهم، كما حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: (وممن حولكم من الأعراب منافقون)، إلى قوله: (نحن نعلمهم)، قال: فما بال أقوام يتكلَّفون علم الناس؟ فلانٌ في الجنة وفلان في النار! فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري ! لعمري أنتَ بنفسك أعلم منك بأعمال الناس, ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك ! قال نبي الله نوح عليه السلام: وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ،, [سورة الشعراء: 112]، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [سورة هود: 86]، وقال الله لنبيه عليه السلام: (لا تعلمهم نحن نعلمهم).
وقوله: (سنعذبهم مرتين)، يقول: سنعذب هؤلاء المنافقين مرتين، إحداهما في الدنيا, والأخرى في القبر.
ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا، ما هي؟
فقال بعضهم: هي فضيحتهم، فضحهم الله بكشف أمورهم، وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[وقال آخرون: ما يصيبهم من السبي والقتل والجوع والخوف في الدنيا
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين)، قال: القتل والسِّبَاء.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين)، بالجوع, وعذاب القبر. قال: (ثم يردون إلى عذاب عظيم)، يوم القيامة.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون، والقاسم، ويحيى بن آدم, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: (سنعذبهم مرتين)، قال: بالجوع والقتل = وقال يحيى: الخوف والقتل.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: بالجوع والقتل.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: (سنعذبهم مرتين)، قال: بالجوع, وعذاب القبر.
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين)، قال: الجوع والقتل.
وقال آخرون: كان عذابهم إحدى المرتين، مصائبَهم في أموالهم وأولادهم, والمرة الأخرى في جهنم.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (سنعذبهم مرتين)، قال: أما عذابٌ في الدنيا، فالأموال والأولاد, وقرأ قول الله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، [سورة التوبة: 55]، بالمصائب فيهم, هي لهم عذاب، وهي للمؤمنين أجر. قال: وعذاب في الآخرة، في النار =(ثم يردون إلى عذاب عظيم)، قال: النار.
وقال آخرون: بل إحدى المرتين، عذابُهم بما يدخل عليهم من الغَيْظِ في أمر الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (سنعذبهم مرتين)، قال: العذاب الذي وعدَهم مرتين، فيما بلغني، غَمُّهم بما هم فيه من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حِسْبة, ثم عذابهم في القبر إذا صاروا إليه, ثم العذاب العظيم الذي يردُّون إليه، عذابُ الآخرة، والخُلْد فيه.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذِّب هؤلاء الذين مرَدوا على النفاق مرتين, ولم يضع لنا دليلا يوصِّل به إلى علم صفة ذينك العذابين = وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم. وليس عندنا علم بأيِّ ذلك من أيٍّ ، غير أن في قوله جل ثناؤه: (ثم يردّون إلى عذاب عظيم)، دلالة على أن العذاب في المرَّتين كلتيهما قبل دخولهم النار. والأغلب من إحدى المرتين أنها في القبر. وقوله: (ثم يردون إلى عذاب عظيم)، يقول: ثم يردُّ هؤلاء المنافقون، بعد تعذيب الله إياهم مرتين، إلى عذاب عظيم, وذلك عذاب جهنم.
و قد سُقْتُ هذهِ الأقوالَ بِطُولِهِا –واخْتَصَرْتُها قليلاً-حتى أُبَيِّنَ أنَّ هناك من قال بتعذيبهِم بما يحصُلُ لهم من الغَمِّ و قدْ أصَابَ أبو جعفرٍ الطبريُّ في عدمِ ترجيحِهِ لأحَدِ تلكَ الأقْوالِ لما لَحَظَه من الإشارة في قوله تعالى : “مرتين”، و يَبْعُدُ أن يكونَ عذابُ القبرِ مقْصوداً لذاتِه لأنَّه لاخُصوصِيَّةَ للمنافقينَ به، فاختارَ أن يُفَوِّضَ إلى اللهِ عِلْمَ هاتينِ المرَّتينِ. وهو مذهبٌ سليمٌ و أخْذٌ بالأحْوَطِ. و لكنَّ ما يبْدو لي واللهُ تعالى هو العالِمُ المُصَوِّبُ ، أنَّ المَرَّتِيْنِ هما : مَرَّةً بأيْدي المسْلمينَ و مرةً بأيْدي المشْركينَ أو بتعبيرٍ آخَرَ: مرةً حينَ يدْخُلونَ الاسلامَ و هم مُتَشَكِّكُونَ ، فيصيبهمْ عذابٌ من أعداءِ المسلمينَ، لأنَّهم محسوبونَ فيهم ؛ ومرَّةً حين يخْرُجُونَ منْهُ (كما ارْتَدُّوا بَعْدَ وَفَاةِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، فَيُصِيبُهمْ عَذَابٌ بأيْدي المُسْلِمينَ. و الحقيقةُ أنَّ المنافقَ كما تَبَيَّنَ لنا مُعَذَّبٌ على الوجْهَيْنِ ، لا يَسْتَقِرُّ على قَرَارٍ لأنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مُسْلِمٍ و لا كَافِرٍ مُعَانِدٍ.
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا٦ الفتح.
لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا٦٠ الأحزاب.
الطبقة الرابعة في أقوالِهم و سوءِ ظنهِم باللهِ ووَصْفِهم بأنَّ في قُلوبِهمْ مَرَضَاً (و كانَ الأجْدَرَ أنْ نُقَدِّمَ هذه الآياتِ لوصْفِها النِّفَاقَ بأنه مَرَضٌ في القلْبِ و هو عُمْدة بَحْثِنَا).
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ١٢ الأحزاب
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ ۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٩ الأنفال
و قدْ أَجْمَعَ المفَسِّرونَ تقْريباً على أنّ الآيةَ السابقةَ نَزَلَتْ في ناسٍ منافقينَ منْ أَهْلِ مَكَّةَ خَرجُوا في بَدْرٍ معَ المشركينَ فَرَأَوْا قِلَّةَ المسلمينَ و كانُوا مُتَحَيِّرِيْنَ مِنْ قَبْلُ في أَمْرِ الاسْلامِ
وَلَئِن سَأَلۡتَهُمۡ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلۡعَبُۚ قُلۡ أَبِٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ ٦٥ التوبة
الطبقة الخامسة (عذابُ المنافقينَ كعذابِ الكفارِ خالدينَ فيها)
هذه الدرجةُ من النفاقِ هي القُصوى و هي التي يمكن أن ينطبقَ عليها الوصفُ والتعريفُ الذي يَشِيْعُ بَيْنَ الناسِ بحيثُ يصِحُّ أن نقولَ إن هؤلاءِ قدْ أَبْطَنُوا الكُفْرَ و لايَجْرُؤُونَ على البَوْحِ بذلك جِهاراً إلا ِلَمامَاً. وهؤلاءِ كانوا كفَّاراً عَنِيدِيْنَ في السابِقِ ثُمَّ أَصَابَهُمُ النِفَاقُ بعد أن اضْطُّرُوا إلى الاسْلامِ لحِفْظِ وَجَاهَتِهِمْ وَمَكَاسِبِهِمْ و لذلكَ كانَ نِفَاقُهُمْ عَنِيفَاً. و لْنَنْظُرْ إلى القِصَّةِ التي تَتَحَدَّثُ عنْها الآياتُ التاليةُ و كيف تَتَوَعَّدُهُمْ بالخلودِ في نارِ جَهَنَّمَ (و هي القصةُ المعروفةُ عنْ مُحاوَلَةِ اغتيالِ النبي صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَقِبَ انْصِرَافِهِ مِنْ تَبُوك و المشهورةُ بحديثِ الدُبَيْلة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ٧٣ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدۡ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلۡكُفۡرِ وَكَفَرُواْ بَعۡدَ إِسۡلَٰمِهِمۡ وَهَمُّواْ بِمَا لَمۡ يَنَالُواْۚ وَمَا نَقَمُوٓاْ إِلَّآ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِۦۚ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيۡرٗا لَّهُمۡۖ وَإِن يَتَوَلَّوۡاْ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَا لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ ٧٤ التوبة.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ هِيَ حَسْبُهُمْ ۚ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ٦٨ التوبة
لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا٧٣ الأحزاب
و يمكنُ أنْ نَقُولَ أيضاً إنَّ عذابَ المنافِقِ (و لوكان حائراً في أمْرِ الاسلامِ و النبوةِ و مُتَرَدِّدَاً بين الايمانِ و الكُفْرِ) سينتهي بالنارِ مُخَلَّدَاً فيها والعِياذُ باللهِ إذا مَاتَ على ذلك (لأنه يموتُ على الكفرِ). و مِنْ سُنَّةِ اللهِ في عبادِهِ أنَّهم إذا تَكَرَّرَ منهمُ الكفرُ بعدَ الايمانِ أن يُعْقِبَهُم نفاقاً في قُلوبِهمِ إلى يَومِ يَلْقَوْنَهُ كما قالَ، و يتوبُ اللهُ على مَنْ تاب.
الطبقة السادسة (تنبيه النبي بأن لا يطيع المنافقين)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ١ الأحزاب
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ٤٨ الأحزاب
لم يقف المفسرون كثيراً عند قوله تعالى للنبي : لا تطع الكافرين والمنافقينَ. و المعلومُ من الأصول أن خطابَ الله لنبيهِ إذا لم يكن في الخصائصِ فهو خطابٌ لأُمَّتِهِ. و قد تكرَّرَ تحذيرُ القرآنِ للمؤمنينَ من الرُّكُونِ إلى المنافقينَ ، وسَمَاعِ نُصْحِهِم، لأنَّهُم عَادَةً يُقَدِّمُونَ نصائِحَ ، ظاهِرُهَا حِكْمَةٌ ومَحَبَّةٌ، وبَاطِنُهَا خُبْثٌ ، وَمَصْلَحَةٌ لهمْ أوَّلاً و آخِراً . لأن المنافقَ لا يستطيعُ أن يَصْدُقَ في نصيحةٍ، لأنَّ مُنْطَلَقَهُ في كلِّ الأمورِ، و نَظْرَتَهُ في كلِّ الأَحْدَاثِ ، مَحْصُورَةٌ في مَصْلَحَتِهِ وَنَجَاتِهِ هوَ هوَ((التكرير مقصود للتوكيد))، و لا يَسْتَنِدُ إلى مَبَادِئَ ثَابِتَةٍ ،كما هوَ شَأْنُ المؤمنينَ بل حتى الكافرينَ. وأما الأمْرُ بِعَدَمِ طَاعَةِ الكافرينَ ، فهو من باب عَدَمِ الاستكانَةِ لهمْ ،حالَ قُوَّتِهِمْ و ظُهورِهِمْ ، حينما يَطْلُبونَ مِنَ النَبِيِّ مَثَلاً ، أنْ يَطْرُدَ مَنْ حَولَهُ من الضُعَفَاءِ، لِيَجْلِسُوا هُم إليهِ و يَسْمَعُوا مِنْهُ. وفي أيَّامِنَا نَرَى أشْياءَ كثيرةً شبيهةً ، يُمْلِيهَا الكافرونَ على المسلمينَ، على شَكْلِ نَصَائِحَ، ظاهِرُهَا الْرَّحْمَةُ وبَاطِنُهَا العَذَابُ!
الطبقة السابعة: (في تحولات القلب عند المنافقين وأنهم كفروا بعد إيمانهم)
لَا تَعۡتَذِرُواْ قَدۡ كَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡۚ إِن نَّعۡفُ عَن طَآئِفَةٖ مِّنكُمۡ نُعَذِّبۡ طَآئِفَةَۢ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ مُجۡرِمِينَ ٦٦ التوبة
وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٧٥ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم
مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧ أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ سِرَّهُمۡ وَنَجۡوَىٰهُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ ٧٨ التوبة
إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ ١ ٱتَّخَذُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ جُنَّةٗ فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّهُمۡ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٢ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَفۡقَهُونَ ٣ ۞وَإِذَا رَأَيۡتَهُمۡ تُعۡجِبُكَ أَجۡسَامُهُمۡۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسۡمَعۡ لِقَوۡلِهِمۡۖ كَأَنَّهُمۡ خُشُبٞ مُّسَنَّدَةٞۖ يَحۡسَبُونَ كُلَّ صَيۡحَةٍ عَلَيۡهِمۡۚ هُمُ ٱلۡعَدُوُّ فَٱحۡذَرۡهُمۡۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُۖ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ ٤ المنافقون
وهذه الطبقةُ مثبتةٌ موكدةٌ لما قلناه و أعدناه و لابأس بتكراره ههنا :
- المنافقون مرُّوا بمرحلة إيمان في بدايتهم ( يمكن أن نقول إنهم “جرّبوا الايمان عسى أن ينفعهم”).
- النفاق أصلاً مرض نفسي قد يُشفى المرء منه فيتوب، وقد لا يُشفى أبداً وبالأخص إذا كان فيه جرأة على الله و تحدٍ لرسوله كما في قوله : فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه و القصة المشهورة في أسباب نزول هذه الآيات.
- إذا قالوا يعجبك قولهم و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و لكنهم مرضى لا يفقهون و لا يشعرون بمرضهم ولا يفيدون بشيء مما يُظَنُّ بهم أنهم أهله.
- يحسبون كل صيحة عليهم و ذلك للخوف المزروع في قلوبهم من انفضاح أمرهم قبل أن ينكشف لهم الطريق الذي يجب عليهم أن يتبعوه ، و للهواجس التي يعيشونها أبداً.
- هم العدو فاحذرهم. ولاحاجة لشرح هذا البلاغ الوجيز.
الطبقة الثامنة: ( في فئة منهم بلغ نفاقهم بالمعنى المشهور للكلمة حداً مُخْزِيَاً)
فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٨٨ وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا ٨٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٩٠ سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٩١ النساء.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : ” فما لكم في المنافقين فئتين “، فما شأنكم، أيها المؤمنون، في أهل النفاق فئتين مختلفتين =” والله أركسَهم بما كسبوا “، يعني بذلك: والله رَدّهم إلى أحكام أهل الشرك، في إباحة دمائهم وسَبْي ذراريهم.
و ” الإركاس “، الردُّ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
فَأُرْكِسُـوا فِـي حَـمِيمِ النَّـارِ, إِنَّهُـمُ كَـانُوا عُصَـاةً وَقَـالُوا الإفْكَ وَالزُّورَا
يقال منه: ” أرْكَسهم ” و ” رَكَسَهم “.
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله وأبي: ( وَاللَّهُ رَكَسَهُمْ )، بغير ” ألف “.
واختلف أهل التأويل في الذين نـزلت فيهم هذه الآية.
فقال بعضهم :نـزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانصرفوا إلى المدينة، وقالوا لرسول الله عليه السلام ولأصحابه: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ [سورة آل عمران: 167].
وقال آخرون: بل نـزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ” فما لكم في المنافقين فئتين “، قال: قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتّجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول: ” هم منافقون “، وقائل يقول: ” هم مؤمنون “. فبين الله نفاقهم فأمر بقتالهم، فجاؤوا ببضائعهم يريدون المدينة، فلقيهم علي بن عويمر، أو: هلال بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم حلف= وهو الذي حَصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يُقاتل قومه، فدفع عنهم= بأنهم يَؤُمُّون هلالا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله بنحوه= غير أنه قال: فبيّن الله نفاقهم، وأمر بقتالهم، فلم يقاتلوا يومئذ، فجاؤوا ببضائعهم يريدون هلالَ بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حِلْف.
وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ” فما لكم في المنافقين فئتين “، وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلّموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحابَ محمد ” عليه السلام “، فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله = أو كما قالوا =، أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلَّمتم به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارَهم، تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين، والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء، فنـزلت: ” فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله “، الآية.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ” فما لكم في المنافقين فئتين ” الآية، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلّما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيهما ناس من أصحاب نبي الله وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم: إن دماءهما وأموالهما حلال! وقال بعضهم: لا يحلُّ لكم! فتشاجروا فيهما، فأنـزل الله في ذلك: ” فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ” حتى بلغ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ .
حدثنا القاسم قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر بن راشد قال: بلغني أنّ ناسًا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذبا، فلقوهم، فاختلف فيهم المسلمون، فقالت طائفة: دماؤهم حلال! وقالت طائفة: دماؤهم حرام! فأنـزل الله: ” فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا “.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ” فما لكم في المنافقين فئتين “، هم ناس تخلّفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من وَلايتهم آخرون، وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا! فسماهم الله منافقين، وبرّأ المؤمنين من وَلايتهم، وأمرهم أن لا يتولَّوهم حتى يهاجروا.
وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة، أرادوا الخروج عنها نفاقًا.
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ” فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا “، قال: كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنّا قد أصابنا أوجاعٌ في المدينة واتَّخَمْناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظَّهر حتى نتماثل ثم نرجع، فإنا كنا أصحاب برّيّة. فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة: أعداءٌ لله منافقون! وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة: لا بل إخواننا غَمَّتهم المدينة فاتّخموها، فخرجوا إلى الظهر يتنـزهون، فإذا بَرَؤوا رجعوا. فقال الله: ” فما لكم في المنافقين فئتين “، يقول: ما لكم تكونون فيهم فئتين =” والله أركسهم بما كسبوا “.
ثم قال أبو جعفر مختاراً:
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نـزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدُّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأنّ اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين: أحدهما: أنهم قوم كانوا من أهل مكة، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم.
والآخر: أنهم قوم كانوا من أهل المدينة.
وفي قول الله تعالى ذكره: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا ، أوضح الدّليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة. لأنّ الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر. فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيمًا من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرضُ هجرة، لأنه في دار الهجرة كان وطنُه ومُقامه.
وفي تفسير الآيات التي تلت ذلك تبيان لطبيعة هؤلاء التي أبت عليهم أن يُتمّوا كفرهم بعد أن بدؤوا به فَبَقُوا يُسَبِّبُونَ حَيْرَةً للمؤمنينَ حتى في قتالِهم. و قد أَضْرَبْنَا عنْ ذِكْرِ التفاسيرِ هنا تَجَنُّبَاً للإفْرَاطِ في الإطَالَةِ.
الطبقة التاسعة ( في المآل)
يَوۡمَ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ ١٣ يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ ١٤ فَٱلۡيَوۡمَ لَا يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَةٞ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُۖ هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ١٥
وهذه الآياتُ تُبَيِّنُ بِطَريقِ المقابَلَةِ بينَ عَالَمِ المُلك و عالَمِ الِمثَالِ حَقِيقَةَ وضْعِ المنافقينَ بالنسبةِ للمؤمِنينَ ولتِبْيَانِها على التحقيقِ سَنَتَكَلَّمُ عنها مُفَرَدَةً في الجُزْءِ الذي يَلي.
تَمَّ الجُزْءُ الثاني بِعَوْنِ اللهِ وَحَمْدِهِ، وَيَلِيْهِ الجُزْءُ الثَالِثُ وفِيهِ الحَدِيثُ عن علاماتِ المنافقينَ و غَلَبَةِ النفاقِ وعَلاقَةِ الفِتَنِ بِهِ و أَحْوَالِنَا نَحْنُ المنافقينَ في هذا الزمانِ و كيْفِيَّةِ النِجِاةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
يتبع في الجزء الثالث إن شاء الله
- التكرار مقصود للتوكيد [↩]